قبرص بين المصالح والحياد في المنطقة

16 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

يبدو أنّ الحذر هو نقطة تلاقي التحرّكات القبرصيّة دبلوماسيّاً أخيراً، بشأن التوتّرات في الدول الجارة للجزيرة المتوسطيّة، العضو في الاتحاد الأوروبي. في الوقت الذي تُراهن حكومة الرئيس القبرصيّ، نيكوس كريستودوليدس، على الانفتاح لغةً لبرهان حُسن النيّة أمام اضطرابات جيوسياسية في نطاق واسع، تترافق مع تدخّل قوىً إقليمية ودولية مُؤثّرة مثل الولايات المتّحدة وإسرائيل وتركيا وإيران ولبنان (من خلال حزب الله). تلك التطوّرات، دفعت قبرص إلى تبنّي سياساتٍ واستراتيجياتٍ حذرة، متوازنة. فلكلّ دولة وكيان في المنطقة مصالحه الخاصّة، ويُعتقَد أنّ قبرص تتّبع نهجاً يتكيّف مع ديناميات كلّ علاقة تربطها بجيرانها على حدة.
قبرص جزءٌ من مجموعة تحالفاتٍ إقليمية أبرزها تحالفٌ شبه قوميّ مع اليونان. يمكن ببساطة رؤية علم اليونان في بقعٍ كثيرةٍ من قبرص، يرفرف بمناسبة وبغير مناسبة، من دون حرج. وتحتفل البلاد بأعياد يونانيّة خالصة، وتأخذ الجهات الرسميّة عطلة بمناسبتها، إشارةً إلى التماهي الثقافيّ والسياسيّ مع البلد الذي تتكلّم قبرص لغته اليونانيّة القديمة (القبرصيّة) لغةً عاميّةً، فيما تتّخذ اللغة اليونانية الحديثة لغةً رسميةً أولى لها. ومن هنا، نستطيع التوقّف عند علاقة قبرص باليونان وإسرائيل مثلاً، خصوصاً في قطاعي الدفاع والطاقة، هناك شراكة استراتيجية بين حكومتي قبرص واليونان مع إسرائيل، وتحاول الدولتان، بجذورهما المشتركة سياسيّاً وثقافيّاً، الحفاظ على التعاون الأمني والاستخباري مع الجميع، ولا سيّما في وجود تهديداتٍ متزايدةٍ للاستقرار في المنطقة، وهي ناجمة عن تصرّفات إيران والجماعات المدعومة منها، مثل حزب الله اللبناني. هناك اهتمام بالغ في التركيز على خطّ أنابيب شرق البحر الأبيض المتوسّط، الذي قد يُشكّل عاملاً حاسماً في أمن الطاقة لأوروبا، وتريد هذه الأخيرة الحفاظ عليه بالوسائل المتاحة كلّها، لذلك وجب التحرّك نحو عمق الشرق الأوسط قبرصياً.

تجاوز القبارصة خطوط الاتحاد الأوروبي بالتواصل مع نظام الأسد، ويدركون أنّ القرار في لبنان يتأثّر بسياسات دمشق وطهران

يرى مُحلّلون أنّ العلاقة بين قبرص واليونان وإيران مُعقَّدة، لأنّ طهران تمتلك طموحات إقليمية لا تتناسب مع أوروبا، إذ تلعب دوراً رئيسياً في صراعات سورية والعراق ولبنان، التي نتج منها موجات تهجير لمسيحيي سورية مثلاً، وكذلك نموّ الجماعات الجهادية المُتطرّفة. وعلى الرغم من الصعوبات في طبيعة علاقات قبرص ما بين الشرق والغرب، يتعيّن على أثينا ونيقوسيا الحفاظ على قنوات اتّصال مفتوحة مع إيران، خاصّة على مستوى العلاقات الاقتصادية والثقافية، وتجنّب تبنّي موقفٍ عدائيٍّ تماماً. كما يظنّ مراقبون قبارصة أنّ على بلادهم (إلى جانب اليونان) تعزيز الحوار لتجنّب التصعيد في المنطقة، والتشديد على أهمّية التعايش السلمي. ثمّة تحرّك ملحوظ من البلدين للتنسيق مع الدول الأعضاء والمؤسّسات الأخرى في الاتحاد الأوروبي، وذلك في سبيل دعم المبادرات الرامية إلى الحدّ من نفوذ إيران وتداعيات تهديد ذراعها في لبنان؛ حزب الله، عبر السبل الدبلوماسية والاقتصادية، مع تجنّب المواجهات المباشرة قدر المستطاع.
نتيجة ما سبق، وقبل بضعة أيّام، زار تاسوس تزيونيس، رئيس جهاز المخابرات القبرصية (ΚΥP) لبنان، والتقى نائب زعيم حزب الله، نعيم قاسم، وكذلك كان على موعد (برفقة مساعديه) مع مسؤولين بارزين في لبنان منهم وليد جنبلاط، ومدير مخابرات الجيش اللبناني العميد طوني قهوجي، ومدير الأمن العام بالإنابة اللواء إلياس البيسري، إضافة إلى سياسيين آخرين من بينهم نائب رئيس مجلس النواب، إلياس أبو صعب، والنائب عن حزب الله، محمد رعد. كان هدف الزيارة إرسال تطمينات إلى لبنان مفادها تأكيد قوّة العلاقة والتاريخ بين الشعبين القبرصي واللبناني، والنفي الكامل لأيّ نيّات عدائية لدى قبرص يمكن أن تكون جزءاً من هجوم قد يستهدف لبنان في حال نشوب حروب كبرى. كما كانت تداعيات الحرب في غزّة، وأزمة الهجرة إلى أوروبا، من بين الملفّات التي نُوقِشَت. وأشار القبارصة، في لبنان، إلى أنّ بلادهم تحوي قواعدَ عسكريةً ذات سيادةٍ منفصلةً عن قبرص، وأبرزها قاعدة ديكيليا جنوبيّ شرق قبرص في الشاطئ الشمالي لخليج مدينة لارنكا، وقاعدة أكروتيري الجويّة جنوب غربي قبرص التابعة لمدينة ليماسول، وهي مساحات عسكرية تُشكّل نحو 265 كيلومتراً من مساحة الجزيرة، أي نحو 3%، وتتبع كليّاً للمملكة المتّحدة، ولا قرار لقبرص فيها منذ استقلال الجزيرة عام 1960. كان لتوضيح هذا النوع من المعلومات مُؤشّر ينفض يد قبرص وأراضيها الخاضعة للحكومة الرسمية، من تناول مطاراتها وسواحلها بالاستهداف، بحسب فرضية حسن نصر الله، ويمكنه من ثم توجيه خطابه إلى حكومة بريطانيا، بحسب ما ألمح القبارصة.
سبق تلك اللقاءات تواصل أمني بين قبرص وألمانيا، أعقبه انفتاح دبلوماسي الشكل، أمني في جوهره. أقنية تواصل خلفية، مباشرة ما بين قبرص وأطراف التوتّر في المنطقة. ولوحظ غضُّ نظرٍ متواضعٍ عن تصنيف الكيانات الحليفة للاعبين الإقليميين، وتحييد العقوبات عن بعض الدول مثل سورية جانباً، في سبيل التفاهمات على قضايا تمسّ الأمن والاستقرار، فأرسلت قبرص تاسوس تزيونيس، الذي كان سفيراً سابقاً لبلاده في إسرائيل ما بين 2008 و2011. دبلوماسيٌّ محنّكٌ، يعمل بهدوء، يتجنب الدعاية والصور وحفلات الاستقبال إلّا إذا كان حضوره مطلوباً، شخصية غير تقليديّة، رصين، لكنّه أيضاً مفاوض صعب المراس، ساهم في انضمام قبرص إلى الاتحاد الأوروبي، وفي برنامج استخراج رفات المفقودين والقتلى من حرب قبرص عام 1974، كما ساهم في تحديد المناطق البحرية وقضايا الطاقة عامة، هكذا تخبزنا عنه الصحافة القبرصية. لم تنته زيارة الوفد القبرصي المنطقة، إنّما أكمل تزيونيس إلى العاصمة السورية دمشق، للقاء اللواء رئيس شعبة المخابرات العامّة لدى نظام بشار الأسد حسام لوقا، وكان مبرّر الزيارة مناقشة ملفّات الحدود البحرية، والهجرة من سورية نحو قبرص، وكذلك تبادل المعلومات الأمنيّة بخصوص المُتطرّفين وتجارة البشر.
ربّما تجاوز القبارصة خطوط الاتحاد الأوروبي بالتواصل مع نظام الأسد منذ زمن، وهم يدركون (على الأرجح) أنّ القرار في لبنان غالباً ما يتأثّر بسياسات دمشق وطهران، خصوصاً على المستوى الأمني والاقتصادي. علاقات قبرص مع الأسد في الظلّ تكبر، ويكفي أن نتابع النشاط الاجتماعي والسياسي لسفارة سورية التابعة للأسد في العاصمة القبرصية نيقوسيا، فبعثتها الدبلوماسية تحضر بازاراً خيرياً ترعاه زوجة الرئيس القبرصي، ويشارك مسؤول البعثة عمّار عوض في احتفالات السفارات الأخرى بأعياد بلدانها الوطنية أمام أعين الإعلام القبرصي. القطيعة بين نيقوسيا ودمشق، ليست قطيعةً تماماً، وكانت العلاقات بين نظام الأسد وقبرص شهدت تطوّرات كبيرة كُشف آخرها في تحقيق استقصائي بعنوان "أسرار قبرص"، إذ تورّطت شركات وهمية في شراء مُعدّات نفط، كان نظام الأسد قد طلبها من الشركات الحكومية في قبرص، محاولاً الالتفاف على العقوبات الدولية بحق نظامه عبر وسطاء يملكون تلك الشركات الوهمية. يمكن الاستنتاج، بناءً على ما سبق، أنّ لدى قبرص النيّة الفعليّة بالانفتاح علناً مع الأسد، لمتابعة مصالحها الأمنية مع الحفاظ على مسافة الحياد المطلوبة أوروبياً. لا بدّ من الانتباه أنّ وفد رئيس المخابرات القبرصية ذهب إلى لبنان بدايةً، ثمّ اختتم زياراته المكوكية في دمشق مع رئيس المخابرات العامة للأسد، حسام لوقا.

القبارصة أصدقاء مصالحهم عموماً، لعلّ أبرزها المصالح الاقتصادية والأمنية الواسعة مع إسرائيل

وبالعودة إلى لقاءات الوفد القبرصي في لبنان، نلاحظ كيف كانت المباحثات تتركّز في المسؤولين الرسميين في الدولة اللبنانية، مع التأكيد أن تهديد حزب الله لقبرص لا شكّ أنّه تجاوزٌ للحكومة والمجتمع. هذا ما يُعتقَد أنّه حدث، بدليل كثرة اللقاءات الأمنية بين القبارصة واللبنانيين. هناك نيّة لتعميق التفاهم مع المؤسّسة الأمنية الرسمية في بيروت، ولا سيما بعد المنحة الأوروبية التي قُدِّمت إلى لبنان في مايو/ أيّار الفائت، بقيمة مليار يورو. طلب الأوروبيون وفي رأسهم رئيس قبرص، نيكوس كريستودوليدس، من لبنان الدولة، مكافحة الهجرة، وصدّ قوارب المهاجرين العابرة من لبنان نحو قبرص، كما شهدنا في الأشهر الثلاثة السابقة تطوير خطط أمنية للإيقاع بمهربّي البشر، من جهة، وترحيل معظم اللاجئين السوريين من لبنان، من جهة أخرى.
قد ترى قبرص أنّ حزب الله اللبناني، يُشكّل عاملاً مهمّاً في عدم الاستقرار على مستوى المنطقة، وحتّى تواجه التهديدين الأمني والإعلاميّ للحزب، فهي تحاول أن تدعم لبنان دولةً عبر الأوروبيين، وتتركّز استراتيجية الدعم في تقديم المساعدات الإنسانية والدعم المالي، بهدف تعزيز سلطة مؤسّسات الدولة، وإضعاف سلطة الجماعات المسلّحة مثل حزب الله. وانطلاقاً من ذلك، سمحت قبرص للمستثمرين اللبنانيين بالعمل في أراضيها أخيراً، من دون معيقات تُذكر، خصوصاً في تجارة العقارات والصرافة وتجارة السيارات. كما سمحت للجالية العربية في قبرص بالاحتجاج ضدّ إسرائيل، وتركت لأحزابٍ قبرصيةٍ كبيرةٍ مثل أكيل حرّيةَ رفع حدود معارضته لسياسات الحكومة الداعمة لإسرائيل باستخدام الموانئ القبرصية لدواعٍ عسكرية واقتصادية. هناك ظواهر أخرى عديدة تعكس لغةَ الحياد القبرصية في التعامل مع التهديدات المتسارعة من الداخل والخارج، ولا يغيب عن الذهن أنّ القبارصة أصدقاء العرب، وكذلك اللاجئين، وهم يعملون معهم اليوم. في الحقيقة هم (القبارصة) أصدقاء مصالحهم عموماً، ولعلّ أبرزها في الساحة هي المصالح الاقتصادية والأمنية الواسعة مع إسرائيل.