عن الغنّوشي المعتقل منذ ستة شهور
تعدّدت الاعتقالات والمحاكمات التعسّفية ضد عديد الشخصيات السياسية والحقوقية في تونس منذ انقلاب الرئيس قيس سعيّد على السلطة والديمقراطية في 25 يوليو/ تموز 2021، ويبقى رئيس البرلمان، رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، أبرز المحتجزين منذ 17 أبريل/ نيسان 2023 في ليلة 27 من شهر رمضان، بتهمة التحريض على التقاتل بعد تصريح منه يحذّر فيه من مغبّة الإقصاء وخطورة استهداف المعارضة بجميع ألوانها السياسية والفكرية، مؤكّدا أن الانقلابات ممارسة تعسّفية لا يمكن استساغتها، كما لا يمكن أن تبني وطنا أو مجتمعا سليميْن.
مؤكّد أن كل الاعتقالات السياسية مرفوضة ومُدانة، خصوصا أنها تعدّدت وتنوّعت، ولم تفرّق بين يميني ويساري وإسلامي، كما لم تتوفر فيها معطيات موضوعية للإدانة، ولكن لسجن الغنوشي وقع ودلالة مختلفان.
لقد أراد سعيّد كسر شوكة كل المعارضة باعتقال أهم الشخصيات السياسية في المشهد التونسي، وبثّ الخوف والتردّد في قلوب خصومه، برسالة مفادها بأنه لا قيمة لأحد في نظام القمع الجديد، ولا قيمة للارتدادات الخارجية من ذلك، كما أنه الرجل الأقوى في البلاد الذي يمكن المراهنة عليه في المرحلة المقبلة، سيما بعد محاصرة حركة النهضة، أكبر حزب سياسي في تونس بخلفيته الإسلامية وبتناقضاته مع بعض الأجندات الإقليمية المعادية للثورات والربيع العربي.
لا يولي قيس سعيّد اهتماما للموازنات السياسية، وليست له رؤية للإصلاح أو للحكم غير الخطابات الشعبوية المتكرّرة، إلا أن حجم التخريب الذي أحدثه على البناء السياسي التونسي سيخلف تركة ثقيلة من الكراهية، ومزيدا من الفردانية على المستوى المجتمعي، في ظل تقسيمه المقسّم وتجزيئه المجزّأ وتهميش الأجسام الوسيطة، إلى جانب ما تفعله خياراتُه الأمنية تجاه الأحزاب والسياسيين من تقويض للعمل السياسي المدني، وما يرافقه من حركية فكرية مفترضة تطوّر التصوّرات والبرامج على المدى الزمني.
دفع الغنوشي بعد الثورة إلى خيار الوحدة الوطنية، وبحث عن المشتركات بين كل الفرقاء، رغم كل التجاذبات وما يكتنفها من عثرات
مثّل الحكم الفردي في تونس منذ الاستقلال أهم أمراض الدولة والمجتمع، باختلاف تقييم كل مرحلة، إذ تسبّب في حالة من الجمود والعطالة سياسيا ومجتمعيا، بفعل تكريس أسوأ صور الرعوية، عوض المواطنة في أبعادها التفاعلية والتشاركية، وإقصاء جزء كبير من أبناء الوطن وكوادره، وتحويلهم إلى كتل بشرية متذرّرة معزولة عن دوائر الفعل والإنجاز، الذي حال دون الإضافة إلى المجموع الوطني والتطور في الأداء للجميع، كما خلّف الاستبداد أيضا شروخا بنيوية طاولت جل الأجسام والفضاءات الخاصة والعامة، إلى جانب أزمة الثقة وحالة العداء في أحيان كثيرة التي تتقاسمها جميع النخب بين بعضها بعضا.
هذا ما دفع راشد الغنوشي بعد الثورة إلى خيار الوحدة الوطنية، وبحثه عن المشتركات بين كل الفرقاء، رغم كل التجاذبات وما يكتنفها من عثرات وتصعيد أحيانا في الخطاب، بديلا عن الثأر والانتقام أو محاولة التشفّي في خصوم الأمس من باب طي صفحة الماضي بأحقاده وترك المجال لمسار العدالة الانتقالية ليضمن الحقوق للذاكرة الوطنية وللضحايا وللجلادين أيضا. فمثّلت تجربة الترويكا حالة نوعية لإدارة الحكم وتقاسمه مع تيارات سياسية وفكرية مختلفة يديرها طرف إسلامي بعد سنوات من القمع والاضطهاد، وكان انسحاب "النهضة" من الحكم سنة 2013، ثم المشاركة في حوار وطني جامع، تعبيرا عن أولوية العيش المشترك وضرورته، ورسالة مصالحة أخرى، عوض المغالبة واستعمال أدوات الدولة، رغم أن الحزب حصّل مكانته في الدولة عبر صناديق الاقتراع.
وواصل الغنّوشي في سلوك نهج الحوار والتعايش بخطاب التوافق بعد لقائه مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في باريس، سعيا إلى نزع فتيل الصراع السياسي الحاد بين أهم تيارين سياسيين في البلاد، في ظل ما كانت تتسم به المنطقة آنذاك من حروب أهلية وتطاحن بين إخوان الوطن الواحد في أكثر من دولة.
بديهي أن الغنوشي، بوصفه رئيسا لأهم الأحزاب التونسية ورئيسا لمجلس نواب الشعب، وقع في أخطاء سياسية على مستوى التقديرات أحيانا
لقد دفع زعيم النهضة ثمن هذه الخيارات داخل حزبه، عبر مهاجمته قياداتٍ استقال بعضها لاحقا، وبين أنصاره وخزّانه الانتخابي، حيث تعالت أصوات ترى في ضرورة الحسم والقطع مع كل ممثلي المنظومة السابقة والانحياز للمبادئ الثورية. وإذا كان في هذه الدعوات بعض من النقاء السياسي، إلا أن حقائق الواقع كانت مختلفة، وتطلبت كثيرا من المرونة والشجاعة في أخذ القرارات، للحفاظ على الاستقرار والديمقراطية، رغم كل التحفظات والملاحظات.
تحدّث الباجي السبسي، إثر حملته الانتخابية، عن عروض الدعم الدولية التي تلقّاها في مقابل نسف التجربة الديمقراطية، واستهداف حزب النهضة، غير أن نهج التوافق والحوار جعل الرئيس الراحل ينحاز للخيارات الوطنية أمام كل الإغراءات، ليرحل في جنازة وطنية مهيبة، رغم هنات فترة حكمه السياسية والاقتصادية التي ساهمت فيها التجاذبات والصراعات في دوائره وداخل حزبه "نداء تونس". وبقي الغنوشي بعد ذلك يبحث عن تحقيق التوازن في المشهد السياسي مع أطراف سياسية أخرى، إيمانا منه بأن البلاد لم تصل بعد إلى شاطئ الأمان والاستقرار، وأن الاتفاق الديمقراطي بين النخب السياسية لم يتحقّق بشكل محسوم في غياب الثقة وتواصل المناكفات.
بديهي أن الرجل، بوصفه رئيسا لأهم الأحزاب التونسية ورئيسا لمجلس نواب الشعب، وقع في أخطاء سياسية على مستوى التقديرات أحيانا، ولكنه لم يثأر لنفسه وأنصاره في أهم المنعرجات التاريخية التي عاشتها تونس، وحاول جاهدا تعزيز سلوك سياسي متعالٍ على الأحقاد، رغم كل الشعارات التي رفعت ضده طوال السنوات العشر الفارطة، ولم يُلاحق قضائيا أي شخص أو جهة في حقّ نفسه.
لقد أثبتت محاكمات سلطة قيس سعيّد أن الغنوشي لم يستعمل السلطة، كغيره من الحكام، للنهب أو تحقيق منافع خاصة، ولم يستأثر بسلطة يستعملها لتصفية خصومه، كما لم تُدنه أي جهة بتهمة جنائية تلوّث مسيرته النضالية والفكرية الطويلة، وإنما يقبع في سجنه لرأي عبر عنه ضد مفاسد التسلط والاستبداد ومخاطر تقسيم المجتمع والتلاعب بمؤسّسات الدولة.