عن "استبداد شرقي" في الفكر الغربي
تفرض التطوّرات التي يشهدها العالم أسئلة مهمّة بشأن حقيقة الديمقراطية الغربية، ومدى قابليتها للتصدير، سيما في ظلّ التواطؤ الواضح بين صنّاع القرار الغربي والأنظمة الاستبدادية، التي تنسجم مع مصالح الغرب ورؤيته لمفهوم الإرهاب والاستبداد، فقد أثبتت التطوّرات التي رافقت ثورات الربيع العربي طغيان البراغماتية في تعامل الغرب مع المسألة الديمقراطية العربية، فأظهرت بوناً شاسعاً بين الشعارات الغربية المهلّلة للديمقراطية العربية ومحدودية الدعم ونوعه المكرّس لإنجاحها، وهو ما يعدّ من أشكال الخذلان لتلك الثورات وإهداراً لفرص التخلّص من الصورة النمطية، وصياغة ميثاق حقيقي للتعايش والاحترام المتبادل بين الغرب والشرق.
فالغرب يأبى أن يفارق عاداته القديمة – الجديدة، فمعاييره المزدوجة دائماً ما تكون حاضرة وتفعل فعلها، فوفقاً لمعاييره هناك انقلاب جيد، ويمكن العيش معه، ولا يلقى الإدانات المنبعثة من أعمق أعماق مشاعر الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان كما في الغابون، وهناك انقلابٌ سيّئ، شرير، يستحقّ تجريد الجيوش وشنّ الحروب والعزل والمقاطعة ومختلف أشكال الشيطنة كما في النيجر، كما أن الموقف الغربي من الاستبداد في المنطقة العربية بقدر ما بدا صلباً في ظاهره، سيما أنّ الرسالة الحضارية الغربية المعلنة رفعت شعاراتٍ متّصلة بنشر قيم التمدّن والحداثة والديمقراطية ومحاربة الأنظمة الاستبدادية، فإنّه، في حقيقته، لا يخلو من تحيّزات كثيرة تؤشّر على مفارقات كبرى تخترق الوعي الغربي الذي تمثّل رموزه الفكرية البنى العميقة الموجّهة للسياسات والاستراتيجيات، جهة أخرى، إثر تنميط صورة المنطقة واختراع صورة متخيّلة لها تحت تأثير التصوّر فقد استقرّ في ذلك الوعي ربط جدلي بين الاستبداد والتخلف من جهة والإسلام والشرق من الشوفيني لمفهوم المواطنة في الفلسفة الأرسطية والآداب البيزنطية، ورسّخت الفلسفة الأوروبية الحديثة هذا الاعتقاد، في تناقضٍ تام مع عقلانيتها النقدية، فمونتسكيو على سبيل المثال عرّف الاستبداد الشرقي بأنه "حتمية مناخية"، في حين أنّ هيغل، في صياغته فلسفة التاريخ، انتهى إلى أنّ "الاستبداد قدر الشرقيين الطبيعي"، أما رينان فقد فهم الاستبداد في الشرق على أساس "تمييز تبسيطي عرقي"، كذلك فعل ماركس الذي حاول انطلاقاً من المادية الجدلية دراسة الاستبداد، بصفته إفرازاً لنمط اقتصادي، فخلص إلى أنّ الاستبداد الشرقي إفراز حتمي لـ "نمط إنتاج أسيوي".
إذا أرادت الأمّة الحرية عليها نبذ الاستبداد بكل أصنافه، وهذا الطريق الوحيد إلى نهضة الأمم بعيداً عن المقولات والتنظيرات الغربية عن الاستبداد
أي أنّ الاستبداد في الفكر الغربي، ونتيجة الفهم الخاطئ للتراث الإسلامي، يتم ربطه بالشرق، في إطار مجموعة من المفاهيم الفرعية التي يتعلق بعضها بالمناخ والعِرق ونمط الإنتاج، وفي هذا الأمر، تجنٍّ واضح، فالاستبداد غير مرتبط بمنطقة وعرق ونمط إنتاج معين، والدليل على ذلك أن أوروبا عرفت نماذج سلطوية استبدادية عديدة، كالفاشية والنازية، ظهرت في الحضارة الغربية في أزمان وأماكن مختلفة، كما عرفت أوروبا نفسها في القرون الوسطى الاستبداد باسم الدين والإله باعتباره فكرة مسيحية كاثوليكية ترعرعت في العصور الوسطى المظلمة أوروبياً، عندما استبدّت الكنيسة، واحتكرت الكلام باسم الله وتسلطت على الشعوب، ففرضت الضرائب وأرهبت الحكام والمحكومين، كما عرفت أوروبا أبشع أنواع الاستبداد بوجود سلطتين متحاربتين على النفوذ والصلاحيات، وهما النظام الإمبراطوري ممثّلاً للسلطة الزمنية ونظام الإكليروس الديني الممثّل للسلطة الكنسية، الأمر الذي نجمت عنه حروب أهلية وطائفية دموية، امتدّت على كامل تاريخ أوروبا الوسيط، سواء بين تلك السلطتين أو بين المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي. ويعدّ في هذا الصدد إيفان الرهيب بروسيا، ولويس الرابع عشر بفرنسا الذي تنسب إليه المقولة الشهيرة "أنا الدولة" أنموذجين تاريخيين للاستبداد الغربي، حيث مارس الملوك استبدادهم باسم الله باعتبارهم يحكمون باسم الله، وهم خلفاء الله وظله في الأرض، ولهذا لا تجوز معارضتهم. وكردّ فعل لهذا نشأ المذهب البروتستانتي كما نشأت العلمانية، كرد فعل للتخلّص من استبداد الكنيسة واستبداد الملوك، وكلاهما يستخدم اسم الله لتبرير استبداده.
وبالتالي، يمكن القول إنّ الاستبداد ليس قدراً مقدّراً توصف به شعوب دون شعوب، ومنطقة دون منطقة، وعِرق دون عرق، فالاستبداد لا يكمن فقط بالشرق، كما يقول أرسطو، كما أنه ليس قدراً للشرق يصعب الفكاك منه كما يقول مونتسكيو، فالأمة التي لا يشعر بعضها أو أكثرها بالاستبداد لا تستحق الحرية، كما يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". لذا، إذا أرادت الأمّة الحرية عليها نبذ الاستبداد بكل أصنافه، وهذا الطريق الوحيد إلى نهضة الأمم بعيداً عن المقولات والتنظيرات الغربية عن الاستبداد.