عروبة المستقبل

04 اغسطس 2022
+ الخط -

(إلى محمد الحبيب طالب)

تلقيتُ، أخيرا، مقالة رأي من صديق اهتم طوال مساره السياسي بالمسألة القومية والأفق العروبي، يتساءل فيها عن جوانب من مآلات المسألة القومية في الراهن العربي. وقد انتبهت، وأنا أقرأ مقالته، في زمن عَزّ فيه الحديث عن القومية العربية والمشروع الوحدوي العربي، إلى أن المسألة لا تزال من بين المشكلات التي يحرص، كما كان منذ ستينيات القرن الماضي، على مجابهتها والتفكير في كيفيات استعادة روحها في الحاضر العربي.

يُواصل صديقي في مقالته الدفاع عن الأفق العربي الجامع لتطلعات وطموحات شعوب تروم التخلص من تأخرها التاريخي، ومن الفِتن التي حلت بمجتمعاتها في العقد الماضي، وأدخلتها في متاهات سياسية جديدة. وعلى الرغم من أنني أتصوَّر، خلافاً لما يتصوّره، أن عقد الثورات العربية استطاع أن يساهم بدوره في التهييء، بطريقته الخاصة، لمطلبي التحديث السياسي والعروبة القادرة على بناء مجتمعٍ جديد، بحكم أن الحركات الاحتجاجية التي شملت مختلف البلدان العربية، في مطالع العقد المنصرم، ساهمت بطريقتها الخاصة في إعادة الاعتبار للسياسة وأدوارها المركزية في الإصلاح والتغيير.

استوعبت المقالة نقداً لبعض مقدّمات الفكر القومي وأسسه، من قَبِيل موقف بعض التنظيمات السياسية البعثية من الدولة القُطرية، وعدم قدرة بعضها الآخر على النظر إلى المشروع العروبي التحرّري مشروعا مستقبليا. وانتقدت أيضا ما أطلقت عليه "الأوحال الفِتْنَوية القُطرية الأكثر ارتدادية"، حيث لم ير في التحوّلات الحاصلة اليوم في العالم العربي اليوم، سوى الوجه السلبي لمختلف المبادرات الاحتجاجية، وما خلفته من تداعيات. ونحن نتصوَّر أن التحولات التي رفعت مَطْلَبي الحرية والكرامة في مجتمعاتنا، رغم كل ما حملته من نتائج سلبية في الحاضر العربي، إلا أنها ساهمت في إنعاش التطلعات العربية إلى الوحدة والتحديث والديمقراطية. صحيحٌ أن العلاقات البينية العربية ازدادت بؤساً، وأن الثورات المضادّة وأشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد شملت اليوم بلدانا عربية كثيرة، وسّعت المسافات القائمة بين الأقطار العربية، إلا أنها لم ولن تستبعد إمكانية الانخراط مجدّداً في إعادة بناء المشروع العروبي الديمقراطي.

لا خلاف بين المتابعين للثورات العربية، في غياب الشعارات المرتبطة بالفكر القومي داخل الميادين. ولم تستطع البيانات الصادرة عن بعض المؤسسات القومية، التي حاولت أن تنظر إلى أفعال التغيير الجارية نظرة إيجابية، أن تَدّعي انخراطها في أشكال فعلها الاحتجاجي. ومن هنا، نرى أن أفعال الاحتجاج المذكورة كانت تواجه أنظمة الطغيان، كما كانت تواجه ما تبقى من الأنظمة القومية وغير القومية في المجتمعات العربية. ولهذا نقول إن عروبة المستقبل كانت تحضر، على الرغم من غيابها في أغلب الانفجارات التي حصلت في المجتمعات العربية.

تعود العروبة اليوم تاركة خطاب الأمة، بصيغه التقليدية والطوباوية، لتنخرط في معركة الكرامة

يتوقف الصديق أمام بعض أسئلة المشروع القومي، والمناقشات المؤسّسة لمفاصله الكبرى في خطابات المشروع القومي، من قَبِيل وجود الأمة أو عدم وجودها؟ أمّة مكتملة أم أمّة في طور التشكُّل والتكوُّن؟ يتوقف أمام بعض أسئلة التأخر التاريخي العربي، وهيمنة النظرة المحافظة إلى الدين وللتراث الإسلامي على ثقافتنا. كما يتوقف أمام مواقف القومية العربية من الدولة القُطرية. ويختتم مقالته مشيراً إلى أن المشروع العربي القومي اليوم يقف أمام مفترق طُرق، إنه يواجه جملة من الوقائع والمعطيات السياسية الجديدة، وهو مدعوٌّ إلى التفاعل معها وبناء المشروع العروبي الجديد في ضوئها.

إذا كانت تجارب حكم بعض الأحزاب القومية في المشرق العربي قد عملت على تحويل العروبة إلى منظومة شمولية معادية للديمقراطية، وما تستوعبه من مفاهيم، من قَبيل الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان، أدركنا جوانب من مآزقها في تاريخنا المعاصر، وأدركنا، في الوقت نفسه، أن الثورات الهادفة إلى تحرير العربي من الاستبداد، تساهم بدورها في تحرير العروبيين الجدد من الأنظمة التي ترفع راية العروبة، وتُخاصم الحرية، ملحقة أعطاباً كبيرة بمشروع العروبة الديمقراطي، المنفتح على المكاسب المعرفية والسياسية الكبرى لعصرنا.

تعود العروبة اليوم تاركة خطاب الأمة، بصيغه التقليدية والطوباوية، لتنخرط في معركة الكرامة. ولعلها، بهذا الانخراط، تقيم جسوراً أكثر صلابةً في طريق الاقتراب من بناء العروبة كأفق مستقبلي مدعوم بالشرعية السياسية الديمقراطية، الأمر الذي ظل غائباً في خطابات العروبة العِرْقِية والرومانسية التي عمرت طويلاً من دون طائل.

لا ننظر إلى التحولات الجارية في الواقع العربي حتمياتٍ، إنها معطيات تحكمها شروط سياسية وتاريخية قابلة للتعديل

ندرج التفكير في عروبة المستقبل، ونحن نواجه مختلف تداعيات الثورات العربية، ندرجه ضمن خيار التصدّي لموجة التطبيع الجديدة، قصد إعادة الاعتبار مجدّدا للقضية الفلسطينية والمشروع التحرّري الوطني الفلسطيني. ويستدعي هذا الخيار إعادة النظر في مبادئ كثيرة تصنع اليوم الملامح الكبرى للواقع العربي في جريانه، أي لمختلف التحولات الإقليمية والدولية المؤطرة لموازين القِوى في المشرق والمغرب العربيين.

لا ننظر إلى التحولات الجارية اليوم في الواقع العربي حتمياتٍ، إنها معطيات تحكمها شروط سياسية وتاريخية قابلة للتعديل، بآليات الفعل السياسي كما يتشكّل ويتطور في التاريخ. وإذا ما انطلقنا من أن عروبة المستقبل تكافئ أفقاً جديداً في الفكر، يسعفنا بإمكانية التعلم من أخطاء المشروع القومي وتجاربه، ويدعونا إلى ضرورة ابتكار لغة جديدة يكون بإمكانها، أيضاً، أن تساعدنا في فهم ما يجري اليوم في عالمنا والانخراط في التفاعل مع مستجدّاته في ضوء ما نتطلع إليه، فإنه تترتب على ذلك إعادة النظر في كثير من الأحكام الشائعة، عن القِوى الإقليمية والدولية في محيطنا العربي، بهدف بناء خيارات سياسية، نتخلص فيها من أحكام ومواقف كثيرة سائدة.

أتصوَّر أن التفكير اليوم في عروبة المستقبل لا يمكن أن يغفل أدبيات المنظمات القومية العربية التي تواصل بصوت، غير مسموع، دفاعها عن الأفق القومي العربي، وهي تنظيمات ثقافية وسياسية مدنية، نشأت منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، متطلعة إلى بناء مرجعية قومية جديدة، مكافئة للمتغيرات الجارية في عالمنا منذ نهاية القرن الماضي. والإشارة هنا إلى مؤسسة المؤتمر القومي والمؤتمر القومي الإسلامي، وما يرتبط بهما معاً من تنظيمات فرعية. مع ضرورة العمل على تجديد وتطوير خطاب وآليات عمل هذه المؤسسات، والتخلص من الشوائب التي كانت تجمعها مع المشروع القومي التقليدي، لعلنا نتمكّن من مواكبة مختلف التحولات الجارية في عالمنا، ونعمل، في الوقت نفسه، على الاستفادة من كل الوسائل والأدوات التي طوّرت آليات التواصل والعمل في عالم متغير.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".