سورية في عين العاصفة
أرفع صوتي متسائلاً: ماذا يقع اليوم في سورية؟ أحدث نفسي صامتاً: ماذا أسمع وماذا أرى؟ أقرأ في الصحافة وفي المواقع الإخبارية التي تفيض بها فضاءات التواصل الاجتماعي، حكايات ووقائع غير مُقْنِعة، بمقتضيات لغة التحليل السياسي، المستند إلى معطياتٍ ذات صلة بالسياسة والتاريخ، وذات صلة، أيضاً، بالتحوّلات والمتغيرات الجارية في سورية، وفي المشرق العربي وفي العالم.. فتزداد حيرتي من كل ما أرى وما أسمع، من مواقف وخطابات وصور، فماذا أفعل وأنا أواجه صراخاً متصاعداً، من مختلف زوايا أرض الشام، وفي قلب أرجائها، في الجنوب والشمال والوسط، وكذا في الأقاليم المحاذية. صراخ الغاضبين وصراخ المغتبطين. ماذا أفعل أمام جملٍ وشعارات، ووقائع وحروب مشتعلة منذ سنوات. وماذا أفعل أمام أصوات المليشيات التي تتصدّر اليوم المشهد السياسي؟ ولأنني أخافُ من ردود الفعل الانفعالية السريعة، في القضايا المُماثلة لهذا الذي يقع منذ أسبوع على أرض الشام، وفي قلب دمشق، فإنني أحدّث نفسي وأعانق صمتي.
أرفع صوتي متسائلاً ماذا يقع منذ أكثر من سنة في غزّة؟ وماذا وقع منذ أشهر في بيروت؟ فلا أجد الجواب المناسب لأسئلتي المرتبطة بدوّامة الأحداث المتلاحقة في المحيط العربي. إنني لا أُمَهِّد هنا لبكائيةٍ تمنحني مُتَنَفَّساً يساعد على تهدئة البال، ولا أريدُ، في الآن نفسه، تَذَكُّر أشعار نزار قباني منذ عقود عن أحوال كل من بغداد ودمشق.. كما أنني لا أريد تذكر أحوال صنعاء وطرابلس والقاهرة والخرطوم.. لا أفكر بمنطق البكائيات والملاحم في زمن التراجيديا العربية، ولا بمنطق الجنون في أبهى صوره، إنني أقف أمام حالةٍ قصوى من أحوال التأخر التاريخي العربي. أريد أن أفهم فقط بلغة السياسة والتاريخ والحرب.
أتعجّب لكثرة ما كُتب وما زال يكتب منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، عن هروب بشّار الأسد وسقوط النظام السوري، عن العنف والسجون، فلا أفهم كيف تطوّرت الأحداث واتخذت السياق الذي هي عليه، كيف تحوّلت توافقات الأطراف التي تحتل سورية، وكيف سمحت بالمآلات التي أصبح عليها الوضع اليوم؟ لا أجد الجواب على الأسئلة التي تتلاحق في ذهني، أمام الحدث الحاصل في جريانه الأول وحكاياته الأولى، ومختلف المواقف التي أرسلتها وترسلها الجهات المرتبطة بالأوضاع السورية والوضع في المشرق العربي، وكذا الجهات المهتمّة بنمط التحولات الإقليمية والعالمية، وبالأدوار التي تقوم بها منذ عقود، في قلب دول الخليج العربي وفي دول المشرق والمغرب العربيين.
السؤال المحيّر هو كيف انهارت دمشق؟ والمليشيات التي تتحرّك اليوم فوق الأرض من يحركها؟ وما علاقتها بالأوضاع في كل من غزّة ولبنان؟
هل أستمع إلى رسائل بشّار الصوتية؟ هل أتابع فيديوهات الجولاني؟ هل أقرأ مقالات الرأي في الإعلام الرقمي، أو أواصل الاستماع إلى قنوات التلفزيون العربية والدولية، بكل ما تحمله من مواقف متضاربة ومتناقضة؟ وقبل ذلك أتساءل: هل حكايات هروب الأسد يمكن قبولها، وتصديق ما تحمل من رسائل؟ أجد صعوبة في الانخراط في مسلسل ما أرى وأسمع اليوم، وأتساءل عن سبب انخراطي قبل سنوات في متابعة انفجارات الميادين العربية، رغم أنها تشبه، في كثير من مظاهرها جوانب من هذا الذي أرى وأسمع الآن؟ نعرف أن المليشيات التي تتصدّر المشهد السياسي اليوم، تُعَدُّ من فصائل المعارضة، لكن ما علاقتها بالمجتمع السوري؟ وما هو تصوُّرها للدولة وللحاضر السوري؟
أتساءل: ما علاقة ما يقع اليوم في سورية بكل ما وقع منذ أكثر من سنة في فلسطين، وما تواصل بعد ذلك في لبنان؟ وهل كان كل من الحادثين، الأول والثاني، يمهدان لما وقع اليوم؟ لا يرتبط السؤال بوحدة مصير الشام في العقود الأولى من القرن الجديد، وهو لا يشبه السؤال المرتبط بمعاهدة سايكس بيكو، التي أبرمت في العقود الأولى من القرن الماضي سنة 1916، رغم خيوط الربط القائمة والممكنة بين الحدثين، ورغم الفوارق والمسافات الفاصلة بين الأحداث والوقائع كما تحصل في التاريخ.
بدأ الحديث عن حكومة انتقالية بعد زلزال الثامن من ديسمبر، وبعد 14 سنة من العنف، لكن السؤال المحيّر هو كيف انهارت دمشق؟ والمليشيات التي تتحرّك اليوم فوق الأرض من يحركها؟ وما علاقتها بالأوضاع في كل من غزّة ولبنان؟ ومظاهر اختراق سورية من الكيان الصهيوني اليوم من ساهم في الترتيب لعمليات إطلاقها؟ ولمصلحة من؟ كنت قد رسمت سنة 2015 الملامح الكبرى لمفاجأة تصوّرت أنها البديل المناسب للتطلعات التي ترتبط بالشعارات التي رفعت سنوات الانفجارات التي ملأت المدن والأرياف السورية سنة 2011.
المليشيات التي تتصدّر المشهد السياسي اليوم، تُعَدُّ من فصائل المعارضة، لكن ما علاقتها بالمجتمع السوري؟
أعلن بشار في المفاجأة الترتيبات التي تسعف بنقل السلطة إلى هيئة وطنية، تُكَلَّفُ بتدبير مرحلة انتقالية تعيد الاستقرار إلى سورية.. كنت أحلم إذ ذاك، ولم يعُد بإمكاني أن أحلم اليوم بحكم أنه لا علاقة بين الرعب المتمثل اليوم في لعبة القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في عمليات تحريك ما جرى ويجري في الشام الكبرى.
لم تكن المفاجأة أكثر من حُلم، حصل في إغفاءةٍ نقلتني من جحيم أوضاع الشعب السوري الفعلية، وأوضاع معارضته الممزّقة، حيث تتواصل عمليات ترتيب الأوضاع في سورية، وِفْق أَجَندات وبرامج القِوَى الإقليمية والدولية. الأمر الذي تحولت فيه سورية اليوم إلى مناطق نفوذ إقليمية ودولية، في انتظار الفرصة المواتية لتقسيمها. وتحوَّلت المسألة من قضيةٍ، يُفْتَرَض أن توصل إلى خياراتٍ معيّنة بين سلطةٍ مستبدَّة ومعارضة إلى قضية عرفت وتعرف آلاف الضحايا والمُهَجَّرِين والهاربين والمختطفين، من دون أن نتحدّث عن أوضاع الذين يعيشون وسط التراب والخراب.
لن أحلم بعد اليوم، والحدث الذي وقع في الثامن من ديسمبر وضع سورية في قلب العاصفة، حيث يصعب تجاوز إرث سنوات الثورة المحاصرة معاناة الشعب السوري، معاناة النخب، إرث النظام السياسي الذي واكب تحولات كبرى ولم يتعلم منها.. تتحرّك اليوم القِوى العظمى في عين العاصفة التي تملأ الأرض والسماء، حيث لا يمكن أن نفصل بين ما وقع في غزّة وفي الجنوب اللبناني، وما يقع اليوم في سورية.. وفي قلب كل ما جرى ويجري، تزداد المسافة اتساعاً بيننا وبين التحرير والتحديث والتقدّم.