عبّاس العلني وعبّاس الغرف المغلقة
امتشقَ محمود عبّاس سيف البلاغة على منبر الأمم المتّحدة في نيويورك، وأمطر الاحتلال الصهيوني بوابل من أشدِّ عبارات الإدانة والتحدّي، كما أنشب مخالبه الكلاميّة في ضمير المجتمع الدولي، الساكت والعاجز عن إنهاءِ المذبحةِ في قطاع غزّة، والتي تقترب من إكمال عام.
قبل أيّام فقط من غزوةِ الأمم المتحدة، كان الاحتلال الإسرائيلي يُعربد في محيط مقرّه الرئاسي في رام الله، يقتل الفلسطينيين، مقاومين ومواطنين عاديين، ويهدم المنازل ويقطع الطرق ويغلق البلدات والمدن، بينما كانتْ أجهزة عبّاس الأمنيّة المسلّحة تتفرّج بارتياحٍ على اصطياد عناصر المقاومة بالاغتيالات والاعتقالات، من دون أن تطلق ولو طلقة صوتيّة واحدة من بندقيّة، لا تتذوق طعم الرصاص الحي إلا إذا كان المستهدف مقاومًا فلسطينيًا للاحتلال، أو معارضًا لسلطة التنسيق الأمني مع الاحتلال.
وبينما كان أبو مازن يحمل على الاحتلال بشدّة، مطلقًا زئيراً مزلزلاً، كان الحساب الرسمي للخارجية البريطانية على منصّة إكس ينشر أنّ رئيس الوزراء البريطاني عقد اجتماعًا مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس على هامش الجمعيّة العامة، حيث دان الرئيس عبّاس هجمات 7 أكتوبر، وسلّط الضوء على عدد القتلى المدنيين في غزّة منذ ذلك الحين.
هذا هو عبّاس الحقيقي، عبّاس الغرف المغلقة أصدق من عبّاس الميكروفون والخطب العلنيّة، فيتبنى الرواية الصهيونيّة للمأساة، منطقاً ومنطوقاً، ذلك أنّها ترى أنّ القضيّة تبدأ من 7 أكتوبر (2023) والبادئ أظلم، وهو هنا المقاومة الفلسطينيّة التي أطلقت "طوفان الأقصى"، دفاعًا عن الأقصى في أخطر مراحل تهويده وفرض السيطرة الكاملة عليه عن طريق حكومة اليمين الديني الصهيوني، وكأنّه قبل الطوفان لم يكن ثمّة قتل ومذابح ومجازر وعدوان على غزّة ومدن الضفّة الغربية والقدس، لم يكن هناك شهداء ودمار وتهجير وتوسّع في الاحتلال، قبل أن يأتي مقاوم فلسطيني ويُبادر بالهجوم بعد ثمانية عقود من استقبال الهجمات.
كأنّ كلّ شيءٍ كان هادئًا وساكنًا ومُرْضيًا للشعب الفلسطيني قبل 7 أكتوبر، الذي يتحمّل مسؤوليّة قتل ما يقرب من 42 ألف شهيد، وليس نتنياهو وجيش الاحتلال الصهيوني، هكذا يرى العدو، ويرى محمود عبّاس، وواشنطن ولندن وباريس وجلّ الأنظمة العربيّة، التي تبدأ الحكاية بإدانة 7 أكتوبر واستنكار "طوفان الأقصى"... هل يريد الصهيوني أكثر من ذلك مظلّة شرعية للضرب في غزّة، وفي الضفة الغربية، وفي لبنان؟
مشكلة عبّاس، وكلّ عبّاس عربي آخر، أنهّم فرسان هادرون في الخطابة العلنيّة، غير أنّهم في الجلسات السريّة بالغرف الضيّقة يصنعون البهجة ويرسمون البسمة على الوجه الصهيوني القبيح، ويبتهجون هم أنفسهم حينما ينعم عليهم راعي الإرهاب الإسرائيلي برتبة "الشركاء"، مستخدمًا هذه الشراكة في ادّعاء أنّه يسعى إلى سلامٍ في المنطقة ووقف لإطلاق النار في غزّة، والآن في لبنان، حيث تُستعاد المشاهد والسيناريوهات التي كانت على مدار 47 أسبوعاً من العدوان جزءًا من أدواتِ الحرب الإسرائيليّة، لا آليّات السلام، إذ لم تقدّم شيئاً سوى أنّها باتت ممّا يُطمئن الاحتلال على أنّ بمقدوره أن يفعل ما يريد بفلسطين ولبنان، من دون أن يتوقّع خطراً أمنيّاً أو تهديداً اقتصاديّاً ممّن يسمون أشقاء فلسطين، العرب، وإخوتها في الدائرة الإسلاميّة الأوسع، ممّن حوّلوا قاعات الأمم المتحدة إلى ساحاتٍ للتنافس في الخطابة والبلاغة.
يبدو عبثيّاً تمامًا أن يذهب أحد للشكوى أمام الأمم المتحدة من تعنّتِ إسرائيل وقسوتها، بينما الأخيرة لا تعترف أو تلقي بالًا لقراراتِ هذه المنظّمة الأمميّة من الأساس، بل باتتْ تحاصر الأمم المتحدة بالاتهامات بالانحياز إلى "الإرهاب"، تلك المفردة التي باتت معتمدة مرادفًا للفظ "المقاومة"، وبالتحديد مقاومة الاحتلال الصهيوني.
هذا ما يتجاهله عبّاس وكلّ عبّاس، وهذا ما يجعل كلامه نوعًا من "الحكي الفاضي" أو "التخبيص"، وهي توصيفات اخترعها هو نفسه، وهو يتحدّث عن المقاومة بالسلاح ضدّ الاعتداء بأفتك الأسلحة.