طاحونة الشيء المعتاد في تونس
يرتكب النظام السياسي في تونس أخطاء كارثية، إذ لا يمرّ أسبوع من دون أن يتحفنا الرئيس قيس سعيّد أو حكومته بقراراتٍ أو تصرّفاتٍ نتوقع أن تثير غضب الجميع، لكن لا شيء يحدُث مما توقعنا، وربما تسعفنا ردود أفعال محتشمة، لا ترتقي إلى مستوى الحدث. قد نتفهم تماماً أن تكون قراراته السياسية، بدءاً من إقالة حكومة هشام المشيشي وإلغاء الدستور وإجراء استفتاء أحادي على دستوره الجديد، علاوة على تعديل نظام الانتخاب والشركات الأهلية... إلخ، لا تجد عند إدانتها إجماعاً. لكن كيف يمكن أن نفهم هذا القبول بإجراءات تمسّ هوية الناس والجماعة الوطنية وذاكرتهم أصلاً؟ بل كيف يمكن فهم هذا الاستسلام ومدّ الرقبة إلى قراراتٍ تذبح الناس من الوريد إلى الوريد، أي التي تعلقت بارتفاع الأسعار الجنوني وإيقاف الانتداب في الوظيفة العمومية، وعدم التحاق المعلمين بآلاف المدارس، فضلاً عن إجراءات أخرى عبثية، جعلت من القبض على حفنة سكر أو جرعة من الحليب مطمح آلاف التونسيين اليومي الذي تشدّ إليه الرحال.
لا يمكن إنكار الاحتجاجات التي تندلع هنا وهناك، من حينٍ إلى آخر، على خلفية مسائل معيشية محلية أو أحداث جسام، غير أنها لم تعد تحرّك إلّا قلة ضيقة من المتعاطفين: العائلة، الحي أو المنطقة، على غرار التحرّكات التي شهدتها أخيراً مدينة جرجيس الساحلية الواقعة في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية، إثر غرق مركبٍ كان يقلّ بعض أبناء المدينة في رحلة قاتلة إلى الشواطئ الإيطالية. وقبلها احتجاجات بعض أحياء العاصمة تنديداً بمقتل تجّار رصيف في مناوشاتٍ لا تنتهي مع رجال الجمارك أو الأمن.
عمليات استطلاع الآراء، على علاتها، تفيد بأنّ شعبية سعيّد تتراجع، وإنْ بنسبٍ ضئيلة
إنّها احتجاجاتٌ تأتي كردّ فعل على مبادرات خاطئة، وأحياناً كارثية، تعمد إليها السلطات غير عابئةٍ بردود الأفعال التي يمكن أن تنجم عنها. ثمّة يقينٌ لدى هؤلاء أنّ التحرّكات لن تتجاوز خطاً أحمر مسموحاً به: التنفيس من جهة والتنديد من جهة ثانية. ولذلك تسمح السلطة بالترخيص لبعضٍ منها، وهي تعلم مسبقاً أنّها لن تبلغ ذروتها، ولن تتحوّل إلى نقطة اللاعودة.
مقارنة بالتحرّكات التي عقبت الانقلاب، يبدو أنّ هذه التي تقع حالياً أقل قدرةً على التعبئة، وذلك في مفارقة مزعجة: فإذا كانت المشكلات تتفاقم والأخطاء الكارثية تتصاعد، فإنّ المتوقع أن ترتفع حدّة التحرّكات، وتتسع رقعتها لتشمل فئات وجهات ظلت متردّدة، غير أنّ ذلك لا يقع، بل ربما يحدث خلافه. يبدو أنّ عمليات سبر (استطلاع) الآراء، على علاتها، تفيد بأنّ شعبية سعيّد تتراجع، وإن بنسبٍ ضئيلة. والأكيد أنّه يخسر، من حين إلى آخر، طيفاً ناصره إما لحُسن النية به أو نكايةً، كما يبدو لنا حال هذا جلياً في مواقع عديدة، غير أنّ الأمر يزداد التباساً والناس تستسلم لكلّ تلك الإجراءات المؤلمة التي شملت هذه المرّة رغيفهم.
ليس خصوم سعيّد هم أكبر عدوّ له، وهم الذين عجزوا، إلى حدّ ما، عن إغلاق قوسي انقلابه، بل سعيّد ذاته
كيف يمكن أن نفهم هذا الاستسلام الجماعي؟ ثمّة فرضيات عددية يقدّمها حالياً مختصّون عديدون، وهي لا تتجاوز ثلاثاً رئيسية: حالة الخوف التي عادّت مجدّداً، فإذا كان الناس ظلوا مدداً طويلة بعد الثورة يرفعون شعار "لا خوف بعد اليوم"، فإنّ هذا لم يعد مضموناً. وفي أحدث الدراسات عن تونس، يؤكّد عالم الاجتماع الفرنسي، فانسان جسار، أنّ حالة الخوف تعود اليوم لتشمل فئاتٍ واسعة، خصوصاً في ظلّ المحاكمات الواسعة وتغوّل النقابات الأمنية، إنّها تشبه تلك الحالة التي سادت في عهد بن علي. لا يمكن أن نتجاهل أنّ المحاكمات التي طاولت بعض قادة الرأي العام والمدوّنين والمحامين والنواب وغيرهم كانت كافية لإخافة مواطنين تونسيين عديدين. الفرضية الثانية أنّ فئات لعبت بعقولهم آلة البروباغندا أنّ العشرية المنصرمة سوداء، لوّنتها، حسب مزاعم هذه الدعائية، حركة النهضة بأخطائها، مستعدّة أن "تضحّي" مقابل القضاء على "النهضة"، ولو على حساب رغيفهم. وهذه فئةٌ، في اعتقادي، محصورة في متسيسين جرفتهم رياح العواطف الهوجاء، والتي لم تدرك بعد، للأسف، أنّ سعيّد لو ظلّ على هذا النهج لطاولهم آجلاً أو عاجلاً، كما أنّ السياسة المبنية على الحقد لن تبني مشروعاً، حتى ولو سحق سعيّد جميع من عارضه. وأخيراً، الفرضية الثالثة أنّ ثمة حالة إنهاك طاولت الجميع، نخباً ومواطنين، ثم القناعة الواسعة بأنّ النظام سيرحل يوماً ما. وقد يستفيد سعيّد من هذه الانتظارية، خصوصاً في ظلّ مؤشّرات عديدة تفيد بأنّ الدولة قد تنجح في الأيام المقبلة في إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، من شأنه أن يخفف من حدّة الأزمة الاقتصادية، ويمنح النظام هدنة اجتماعية، وإن إلى حين.
مع ذلك، ليس خصوم سعيّد هم أكبر عدوّ له، وهم الذين عجزوا، إلى حدّ ما، عن إغلاق قوسي انقلابه، بل سعيّد ذاته. سيرتكب أخطاء جسيمة، حتى ولو أمطرت عليه السماء ذهباً. وتبرُز نسب الإقبال على الاستفتاء المتدنية، والتي ستتكرر في الانتخابات التشريعية بعد أسابيع قليلة، أنّ حالة من المقاومة السلبية، قد تستمر طويلاً، غير أنّها غير مثمرة، وهو ما يطيل عمر الاستبداد.