القوميون والعسكر والاستبداد... أين الخلل؟

30 ديسمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

لم يكن موقف قوميين عرب من سقوط نظام بشّار الأسد مفاجئاً، فقد ساندوه في جرائمه البشعة كلّها، وساندوا أباه حافظ الأسد أيضاً. حين اشتدّ الطوق على دمشق، وأصبحت المعارضة على بعد كيلومترات من قصر الشعب، أوائل يناير/ كانون الثاني 2013، هرع إليه الجميع، وغامروا بزيارته من كلّ حدب وصوب، خصوصاً أن التدخّل الروسي الإيراني وفّر لهم مسالك آمنة. تناسى القوميون أن نظام الأسد قاتل الفلسطينيين بكلّ ضراوة، وارتكب في حقّهم مجازر في مخيّمات لبنان، وفي سورية نفسها، وتغافلوا عن اصطفافه الغريب وراء التحالف الدولي الذي حاصر العراق وقاد هجومه المدمّر عليه سنة 1990، وأسقطوا من خزّان ذاكرتهم أن نظاماً قومياً تنازل عن الجولان في ملابساتٍ لم تُبح بعد أسرارها، ولم يطلق رصاصة واحدة على المحتلّ في الجولان، الجبهة التي ظلّت في طولها مع الكيان الغاصب خامدةً، حتى إن الاحتفاظ بـ"حقّ الردّ في الوقت والمكان المناسبين" أصبحت عبارة يتندّر بها صبية الحارات.
في تونس، ولمّا كانت ثورة التونسيين يهدّدها الجميع (جماعات إرهابية والدولة العميقة ومعارضة عبثية)، سارع التونسيون القوميون إلى مساندة بشّار الأسد وحشد حلفائهم، سواء من الأحزاب المعارضة لحركة النهضة آنذاك (نداء تونس والجبهة الشعبية) من أقصى اليسار السياسي، وبرلمانيين، وحتى من القيادات النقابية أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، للقيام بزيارات متتالية، لعلّ أكثرها أهميةً زيارة الوفد التونسي بشّار الأسد، إذ سارع هؤلاء إلى إعلان الولاء لـ"القائد بشّار". كان ذلك في 31 يوليو/ تمّوز 2017، حين قاد الوفد آنذاك المرحوم بوعلي المباركي، ذو المهجة القومية.
يتملّك القوميون، كلّما ذكر مستبدّ أو عسكري، ما يشبه الوله المرضي بالعسكر، يمرّون بحالات انتشاء قصوى حين يرون البدلة العسكرية الخضراء، يعشقون الانقلابات العسكرية، ويزغردون كلّما سمعوا بانقلاب حدث، حتى لو كان في أقاصي بلاد الواق الواق. لا يعدّ ذلك مُجرَّد مشاعر هوجاء بل تعبيراً صادراً من ثقافة وتصوّر ورؤية، يعبّرون عنها. ليس من الصدفة أن من حكم الشعوب العربية من القوميين قد جاء من طريق انقلابات عسكرية، لم يصعد كرسيَّ الرئاسة زعيم قومي عبر صناديق الاقتراع. ومن غرائب الأنظمة القومية، التي حكمت بالحديد والنار شعوبها، أنها تحوّلت أثناء حكمها أنظمةً عشائرية وطائفية تقريباً، باستثناء حالة جمال عبد الناصر. رأينا كيف تنفّذت قبائل بعينها في ليبيا، وكيف استحال حكم الأسد (الأب والابن) حكماً أقلّوياً طائفياً، وكيف انتهى حكم صدّام حسين عشائريةً بغيضةً استغلّها خصومه للانقضاض عليه في تحالف مريب مع الأميركيين والإيرانيين، من أجل تأسيس نظام طائفي على أنقاضه.

كلّما التقى العسكر بالأيديولوجيا كانت البشرية أمام اختبار رهيب قلّما نجت منه حقوق الإنسان

حين سقط نظام صدّام حسين، بايع عديدون من شتات القوميين، وهم يتجرّعون مرارة اليتم، البعث السوري، وهم يعلمون جدّياً أنه خرّب الحلم القومي. ومع ذلك، مال إليه أكثرهم. في أحد اجتماعات المؤتمر القومي العربي، المنعقد في بيروت سنة 2014 بعيد مجزرة رابعة، وتراجع وهج الثورة السورية بعد تدخّل روسيا وإيران، حرص المؤتمرون على الثناء على إيران لوقوفها "البطولي" مع النظام السوري. غضّ هؤلاء الطرف عما فعلته ايران مع العراق، قبل سقوط النظام وبعده. ارتمى القوميون العرب في أحضان إيران (الدولة الموغلة في قوميّتها). لم يكن هذا الموقف آنذاك مبنياً على ما سمّي "محور الممانعة"، بل لأن إيران، حسب تقديرهم، ناهضت ثورات الربيع العربي أينما حلّت. كان للقوميين العرب موقف مخجل من الانتهاكات كلّها التي وقعت في حقّ الإخوان بمصر، ولكنّ الحقد الأيديولوجي شرّع لهم ذلك، خصوصاً أن عبد الفتاح السيسي عسكري. إذ يكفي أن يلبس الحاكم البدلة العسكرية حتى يصطفوا وراءه، خصوصاً إذا نكلّ بالإسلاميين خصومهم.
في الكتابات التأسيسية للقومين العرب، ثمّة شغف بنموذج توحيد الأمّة بقوة السلاح. لذا يحظى الجيش لديهم بهالة التقديس، يقدّم القائد الألماني أوتو فون بسمارك (1898) نموذجاً يُحتذى. كان نديم البيطار، الذي عدّ عبد الناصر بسمارك العرب، مؤثّراً بما كتب في كلّ الأجيال التي تعاقبت من القوميين. والعسكر إذا حكموا جعلوا من الحقوق والحرّيات خصوماً. حين بدأ القوميون العرب في بداية الألفية القيام بمراجعات طفيفة لمسألة الديمقراطية تحديداً، تقدّموا في هذا الاتجاه خطوات معدودة، غير أنهم سرعان ما تراجعوا عن ذلك مع قدوم الثورات العربية. اعتقد بعضهم أنها ستؤدّي إلى صعود خصومهم، أيّ تيّارات الإسلام المحافظ، لذلك ناصبوها العداء. لا يعني ذلك أن خصومهم من الإسلاميين أو اليساريين أكثر ديمقراطيةً، ولكنهم أقلّ مساندةً للأنظمة العسكرية. كلّما التقى العسكر بالأيديولوجيا كانت البشرية أمام اختبار رهيب قلّما نجت منه حقوق الإنسان. لقد كانت أشدّ الأنظمة شموليةً وفتكاً بشعوبها التي لبست الخوذة العسكرية عقيدةً.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.