صداقة سياسة وموت

10 يوليو 2021

عقاب يحيى وفايز خضور

+ الخط -

دعيت، في أواخر عام 2007، إلى الجزائر برفقة الشاعر الراحل فايز خضور، لاستلام شعلة الشعر العربي ونقلها إلى سورية. كان هذا تقليدا سنويا في فكرة العواصم الثقافية، ففي 2007 كانت الجزائر عاصمة الثقافة العربية، وكانت دمشق تتحضر لاستقبال دورها عام 2008. أتذكر أننا أمضينا غالبية وقت الدعوة خارج أوقات النشاطات الثقافية، في الفندق، إذ كانت الجهة الداعية حريصةً على أن لا يغادر أحدُنا الفندق من دون مرافقة خشية حدوث أي فعل أمني، وهو ما جعلنا نلتقي الأصدقاء والمعارف في بهو الفندق فقط، على عادة جميع الوفود الثقافية وقتها.

في اليوم الثالث لوجودنا في الجزائر، سألني فايز إن كنت أعرف عقاب يحيى. قلت له إنني لا أعرفه، لكنني قد أكون سمعت باسمه، فقال: حتما لا تعرفينه شخصيا، فهو معارضٌ مرٌّ لنظام حافظ الأسد. هرب إلى الجزائر في منتصف السبعينيات خوفا من بطش النظام، وممنوع حتى الآن من العودة إلى سورية. كان من جماعة صلاح جديد، وحاول تأسيس تجمّع معارض، ما جلب عليه غضب النظام، فخرج من سورية خوفا من أن يلقى مصير جديد ومحمد عمران وسليم حاطوم وغيرهم. وأكمل: على كلٍّ، هو قادم الآن إلى الفندق، وستسمعين منه قصته.

بعد مضي أقل من ساعة، وصل عقاب يحيى، رجل وسيم في أوائل ستينياته (كان قريبا في السن من فايز خضور، ربما أصغر منه بعامين أو ثلاثة). ما زال يحافظ على لهجته "السلمونية" الواضحة، حيث حرف القاف ملفوظ بشكل واضح، وحيث الأحرف معطّشة كلها، تشعر وأنت تسمعها كما لو أن جبل بلعاس المطلّ على سلمية قد وضع كل ثقله في نطق اللغة العربية لدى أهل السلمية. وهو ما كان ظاهرا في لهجة فايز خضور أكثر، إذ خففت سنوات الغربة والعيش بجانب البحر في الجزائر من تعطّش الأحرف العربية في لهجة عقاب يحيى.

أتذكّر لحظات اللقاء بين الصديقين القديمين. كان الأمر مؤثّرا فعلا، حتى أنني أشحت بصري كي أخفي دموع التأثر، وأترك لهما حرية الضعف، ثم امتد اللقاء ساعات طويلة، يحكي فيها عن سنوات غربته، وعن حياته وعن حنينه لسورية وللسلمية وللأصدقاء، وعن سنوات النضال في حزب البعث، وعن الأحلام المجهضة، وعن خيانة حافظ الأسد رفاق السلاح ومن قاموا بـ"ثورة آذار"، وعن دور إسرائيل وأميركا والنظام العالمي في تكريس حكم الأسد بما سميت "الحركة التصحيحية" وقتها، وعن التوريث وحكم بشار الأسد. أتذكّر أن عقاب يحيى قال يومها: "لن يكون مختلفا عن والده إلا بالمظهر الخارجي، فمن يحكم سورية هو النظام الذي أسّسه والده، حافظ الأسد سيحكم سورية من قبره، لطالما خطّط ليكون هذا هو واقع الحال في سورية". .. لم يعترض أحد منا يومها، بل أيده فايز خضور (الحزب السوري القومي الاجتماعي) في كثير من كلامه، لكن من دون الدخول في عمق تشريح الوضع السياسي السوري، لم يعترض حتى على نبوءة عقاب يحيى: "الوضع صعب يستمر هيك لوقت طويل، السوريين رح ينفجروا ذات يوم قريب". ثم قال خضور "أوافقك بالمجمل، لكننا في سورية نشعر أحيانا، نأمل أن الأمور آخذة في التحسّن". كان "المظهر العصري" للرئيس الشاب وزوجته يشي بسلوكٍ مختلفٍ بالنسبة لكثيرين. لم تكن أي بادرة للربيع العربي قد لاحت بعد، ولا أحد كان يمكنه تخيّل ماذا سيحدُث في سورية بعد سنوات قليلة جدا.

بعد ثلاث سنوات على هذا اللقاء، بدأ الربيع العربي، وقامت القيامة في سورية. كانت بالنسبة لعقاب يحيى الأمل الذي انتظره طويلا. لهذا انخرط من دون تردد في كل ما يتعلق بسورية كتابة وعملا سياسيا. رأيته في عام 2012 في القاهرة التي كانت مركزا يضم كل التيارات السورية المعارضة. قلت له مباشرة: أنت أكثر شبابا مما كنت في 2007 في الجزائر. .. أجابني: الثورة، يا عزيزتي، والأمل.

رحل عقاب يحيى قبل أيام، بعد معاناته مع مرض السرطان. لم يتحقق أمله للأسف، لا بسقوط النظام ولا بالعودة إلى سلمية. كان محقا في قوله إن "حافظ الأسد يحكم سورية من قبره". رحل ودفن في تركيا، ليس بعيدا كثيرا عن سلمية، بينما رحل قبله بأقل من أربعين يوما بالمرض نفسه (هل هو القدر؟) فايز خضور الذي عارض الثورة، واتهم الثوار بالتآمر والعمالة. دفن في السلمية. .. ترى كيف كان اللقاء بينهما حيث هما الآن؟! هل فرّقت بينهما السياسة أم تغلبت الصداقة، ومسحت دموع اللقاء غبرة الخلاف السياسي؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.