شعبوية معارِضة في الانتخابات التركية
دَرَجَ استعمال مصطلح الشعبوية في وقتنا الراهن للإشارة إلى الخطاب السياسي والإعلامي الذي يرمي إلى دغدغة مشاعر الناس البسطاء، من خلال توظيف منطق تبسيطي، يُقدّم نوعاً من الحلول التبسيطية السهلة والسريعة لحلّ المُشكلات، كما دَرَجَ استعمال هذا المصطلح للإشارة إلى الخطاب السياسي غير المسؤول الذي لا يقوم على العقل، ولا على الرؤية، ولا على الحكمة، إنّما على المغامرة والصدمات والاصطدام ومواجهة الكلّ، من خلال الهجوم على المؤسّسة، وانتقاد النظام ومسؤوليه.
ما يدعو إلى استحضار هذا التعريف الموجز ممارسات وخطابات مارسها وأطلقها المرشّح الرئاسي ورئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، والتي يمكن وضعها في إطار الظاهرة الشعبوية الهادفة إلى دغدغة مشاعر فئات وشرائح معينة من الشعب التركي في سبيل استقطاب أصواتها في انتخابات أمس الأحد (14 مايو/ أيار)، والتي كان جديدها ما كشفته صحف ومواقع إعلامية تركية عن صفقة جرى توقيعها بين تحالف الأمة المعارض ومرشّحه الرئاسي كمال كلجدار أوغلو من جهة، وحزب الشعوب الديمقراطي الموالي لحزب العمال الكردستاني من جهة أخرى، تنصّ على تقديم وعود للأكراد، كإطلاق سراح كبار المسؤولين الأكراد من السجون، مع تقديم مقعدين وزاريين في الحكومة للأكراد، وتسهيل إقامة الحكم الذاتي لهم في الجنوب التركي والشمال السوري في حال فوز كلجدار أوغلو بالرئاسة، مقابل دعم حزب الشعوب الديمقراطي وأحزاب كردية حليفة له، كمال كلجدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية.
القاصي والداني يعلم أنّ أيديولوجية حزب الشعب الجمهوري قامت تاريخياً (ولا تزال) على محاربة الدين والتدين بحجّة الدفاع عن علمانية الدولة
أطلق عليها الإعلام التركي صفة "الصفقة القذرة" على هذا الاتفاق، ويمكن وضعها في إطار الممارسات الشعبوية التي كرّرها كمال أوغلو أخيراً في محاولة منه لاستقطاب الناخبين الأكراد، من خلال دغدغة مشاعرهم بوعود وحلول لا تقوم على العقل، ولا على الرؤية، ولا على الحكمة، إنّما على منطق تبسيطي يُقدّم نوعاً من الحلول التبسيطية السهلة والسريعة القائمة على المغامرة لحلّ ما تُسمّى "المسألة الكردية" في المنطقة.
تتكامل هذه الصفقة مع مجموعة من الممارسات الشعبوية الأخرى التي لا تقلّ خطورة عن "الصفقة القذرة"، منها ما يتعلّق ببعض خطاباته القائمة على لغة تُركّز على الانتماءات الطائفية والقومية مثل "مسألة العلوية" و"مسألة الأكراد" في محاولة لكسب تأييد الجمهور، من خلال هذه المسائل بإيجاد تصوّر المظلومية، ومنها ما يتعلّق بـ "التقية" التي يمارسها من خلال تظاهره بالتدين، وممارسة بعض الشعائر الدينية، التي تتنافى مع هوية الحزب العلماني، لاستقطاب أصوات الناخبين المتديّنين المحافظين، وهذا ما بدا واضحاً في تعمّده المشاركة مع حلفائه من الإسلاميين في موائد الإفطار خلال شهر رمضان، وزياراته المتكرّرة لمعالم إسلامية كقبر "ولي" في قضاء آق شهير التابع لمحافظة قونيا، بل ذهب كلجدار أوغلو في تقيّته إلى أبعد من مجرّد إظهار مظاهر التديّن أو عدم معادة الإسلاميين، فوصل به الأمر إلى التحالف مع ثلاثة أحزاب ذات خلفيات إسلامية، في مسعى منه إلى طمأنة توجّسات الناخبين المحافظين من صدق نياته، على الرغم من أنّ القاصي والداني يعلم أنّ أيديولوجية حزب الشعب الجمهوري الذي يرأسه قامت تاريخياً (ولا تزال) على محاربة الدين والتدين بحجّة الدفاع عن علمانية الدولة، كما أنّ كلجدار أوغلو نفسه وصف الحجاب يوماً بأنه "قطعة قماش بمساحة مترين"، وهو نفسه من ظهر قبل فترة وجيزة يدوس بحذائه على سجادة الصلاة لالتقاط بعض الصور.
أصبح ملف إعادة اللاجئين السوريين جزءاً أساسياً في البرنامج السياسي لكلجدار أوغلو وللمعارضة التركية
كما ظهرت شعبويته في محاولة التوظيف السياسي لكارثة الزلزال لصالح رؤيته ورؤية المعارضة تبريراً أو تفسيراً أو ترويجاً، حتى وإن كان هذا رقصاً على جثث عشرات الآلاف من الضحايا الأتراك والسوريين، من خلال تصيّد أخطاء الحكومة في تعاملها مع كارثة الزلزال والنفخ فيها لتأليب الرأي العام التركي عليها، ودفعه إلى مواجهتها والحطّ من قيمة ما تقوم به وما تقدّمه من أعمال إغاثية. كما ظهرت في خطاباته معاداة الأجانب، وتحديداً اللاجئين السوريين، ومحاولته توظيف ورقة إعادة اللاجئين السوريين إلى سورية لاستقطاب الناخب التركي، بعد أن أدرك، والمعارضة التركية معه، مدى الوزن العاطفي والسياسي الذي يعطيه الناخبون الأتراك لهذه القضية. لذلك استخدموا خطاباً تحريضياً شعبوياً استند إلى تحميل اللاجئين السوريين والحكومة التركية والرئيس أردوغان مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية، إلى درجة أن أصبح ملف إعادة اللاجئين السوريين جزءاً أساسياً في البرنامج السياسي لكلجدار أوغلو وللمعارضة التركية التي قامت بتضمينه بشكلٍ رسمي في برنامجها الحكومي وأهدافها المشتركة للمرحلة المقبلة في حال فوزها بالانتخابات.
شكّلت الشعبوية مرتكزاً مهماً في خطابات كلجدار أوغلو، والتي يمكن تلمّسها في مواضيع وأفكار وقضايا عديدة تناولها في حملته الانتخابية، والتي حاول من خلالها توظيف هذه الشعبوية لاستقطاب الناخبين الأتراك من دون تمييز بين اليمين واليسار.