سَفْر الرُسُومَات .. كونية بالخط المائل
ولّدت الرسومات الكاريكاتيرية التي أعيد نشرها في فرنسا انكساراتٍ وثغراتٍ في الوعي الإسلامي الشرقي، وذاك اللائكي الغربي، وأحدثت انطباعاتٍ لها صلة بالمسار التاريخي لتطور الأشياء لكل منهما، أكثر من إيمان كل منها بالأسس الثابتة لرؤيةٍ جوهريةٍ تكاد تكون سبباً للصراع الماني (ثنائي) الذي كاد ينشب كلما أحست كل مجموعة بالإساءة إلى معتقدها!
إذا كان كل تطور للمجتمع هو بمثابة مسار ارتهاني، فإن التحرّر، كما يقول داريوش شيغان، لن يتم في مستوى التحول الوجداني، بل في مستوى تجدد المجتمع ذاته، الذي حين يُخْضِع إرادة الفرد للإرادة العامة القائمة على الفضيلة، يكون قد وضع حداً للاستهتار والاستخفاف بمشاعر الآخرين. المجتمع الغربي، على الرغم من تجدّده، يرفض إخضاع إرادات الأفراد للإرادة العامة، كما أن المجتمعات الإسلامية، على الرغم من انفعالها العاطفي، تكاد لا تبرح خانتي الجمود والتكلس.
وجودنا في الغرب، ورغبتنا في الوصول إليه عبر المحيطات، أكبر دليل على فشلنا في إيجاد مكان ملائم يمكن أن نسهم به في رفعة مجتمعاتنا
وهذا التصويب هو الآن المحور الذي تدور حوله في آن واحد الشحنات الانفعالية للخطاب الإسلامي، وتحولات المسالك النفسية التي تندّد وتستنكر أواليات القهر وسلطة الإكراه التي تمارسها بعض البلدان الأوروبية على مواطنيها المسلمين، وذلك بدءاً من التحدّيات المعيشية اليومية، إلى الضغوط الاجتماعية إلى الأسئلة الوجودية الكبرى.
وجودنا في الغرب، ورغبتنا في الوصول إليه عبر المحيطات، أكبر دليل على فشلنا في إيجاد مكان ملائم يمكن أن نسهم به في رفعة مجتمعاتنا، بل تدلّ الحروب الأهلية الدائرة على عدم قدرتنا على تفعيل مؤسساتنا بطريقةٍ تستوعب عظيم موروثاتنا وفائق تنوعنا. ولذا التشاكس مع الآخر هو بمثابة تنازع مع الذات، تشاكس يأخذ بعداً سلبياً لافتقارنا الأدوات المعرفية والحضارية، ولعجز الغرب عن إدراك طبيعة السجال، كي يتمكّن من إدارته بصورة سلسة، بل مكابرة الأخير، تعنته وعدم اعترافه بدوره المستمر في تقنين التخلف بشتى الطرق، الاقتصادية والسياسية، في دول العالم الثالث.
انطفأت جذوة الفعالية الحركة الإيمانية لدى مسلمين كثيرين نتيجة ضعف الفهم العملي للقرآن
يلزمنا هنا أن نميز بين العلمانية، بنسختها الأميركية التي تستبطن سبل الإكراه مؤسسياً وبنيوياً، واللائكية بنسختها الفرنسية التي ترفض أن تستوعب أشد العناصر تنوعاً، وتمعن في المحاولة، لصهرها في مصهر توليفي كبير. لقد أزاح الغرب "المقدّس" من مركزيته إلى الهامش، الأمر الذي لربما أقام التعارضات بين إرادة الله وإرادة الناس، فقد غدا التعبد لأنظمة الحكم القائمة، بفضل ما وضعت من أديان مدنية وسياسية، ويفضل ما أحدثته الثورة العلمية والإسهامات التكنولوجية التي حولت العالم بكل ما يحمل من رمزية ومؤسسية إلى مادة استعمالية وقيمة تداولية لم تستثن حتى أنبياءهم من التندر والسخرية. بيد أن العمق الحضاري للإنسان، كما يقول الباحث الجزائري، عبد الرزاق بلقعروز، عمق ديني روحي لا تعوّضه أي عقيدة فلسفية، وللمسلمين الحق في أن يرفضوا الزي السياسي الأيديولوجي الذي يريد تأويل العالم وفق منظوره الخاص، بل من واجبهم أن يسعوا إلى اجتراح أفق حداثي جديد، ينأى بنفسه عن تكرار التجربة الغربية التي بات التاريخ بالنسبة لها سيرورةً لتحقيق العلمنة، على الرغم من استفاقتهم على كوارث أضاعت كنوز المعني والقيمة.
لقد انطفأت جذوة الفعالية الحركة الإيمانية لدى مسلمين كثيرين نتيجة ضعف الفهم العملي للقرآن، ولذا تراهم يلجأون إلى التعبئة الروحية التي لا تسعى إلى تغيير الجانب النفسي للفرد المسلم، وتوجيهه للمقاصد الأخلاقية السديدة، قدر ما تستدفعه لمواجهة "الآخر" وتحدّيه تحدّياً غير حيوي، بل لا يستند إلى إجراء برهاني أو صدق نظري، إنما مجرّد تأويلات (وليست معرفة حقيقية) جلبت التشويش، وأحدثت الفوضى والإضراب، في مجتمعاتٍ إنسانيةٍ كثيرة.
لقد تعرّض النبي (ص)، في حياته، إلى إساءات بالغة، بل إلى محاولاتٍ طاولت الأذى الجسدي، بيد أن ردة فعله لم تبرح يوما خانة الصبر، حتى كان الصبر على الأذى من أبرز سماته، وأجمل صفاته. ولنا أن نسأل من أين يأتي هذا "الإجلال" التي يتملك بعض "المؤمنين"، ويدفعهم إلى جز رؤوس من تسوّل لهم أنفسهم الإساءة للذات الشريفة، وقد كان حريَا بهم أن يلتزموا التبليغ منهجاً للتعريف بالنبي (ص) في أوساط لم يصل إليها بلاغ، بل حيل بينها وبين معرفة الدعوة المحمدية بكل الطرق والوسائل.
ليس المطلوب أن يقدّم الدنيويّ تنازلاتٍ على حساب المقدس، ولكن أن نحرّر هذا الأول من بعض الغرور الاكتفائي، والذي قد يقضي عليه
يكاد هؤلاء المتحمسون يُسْقِطون أفكاراً ومقولاتٍ هي من عوامل تفكيرهم الخاص على النهج المحمّدي، فيستبيحون بذلك حرمة المجتمع في التبصر، بعد أن استباحوا حرية الأفراد في التفكر. لا تدخل الإساءة للأفراد، دعك عن القيادات، ضمن ما أعني بالتفكّر، فمن يفعل ذلك لا تستفزه فكرة الإساءة للمعتقد قدر ما يسعى إلى التعرّف على فاعلية الإدماج القسري للمسلمين، ومن ثمّ التعرف على حدود الصبر والتحمل لديهم. هذا ما حدث مراراً لليهود والنصارى الذين هزئت هوليوود من أنبيائهم، فلم تتعدّ ردة فعلهم الإهمال الذي أثبت جدواه في تضييع القدرة التسويقية لهذا الفعل الشنيع.
لا يستغرقني التفكير في مصير القاتل الذي ربما عانى من حالة الازدواج الماهوي للمجالين، الديني والدنيوي، بقدر ما تهولني ردة فعل السياسيين (المسلمين وغيرهم) الذين يريدون أن يستخرجوا خلاصاتٍ من هذه الحالات النشاز، ويطرحوا مقارباتٍ تتعلق بمصير الدين ( والدين الإسلامي خاصة) في المجتمع الحديث الذي يطلب أفراده حياة روحية باطنية وذاتية في آن واحد. هذه وضعية اختزالية يجب أن لا تُقرن بمسير العقلانية، أو مصير الحداثة التي لا تعدو كونها مجموعة عناصر منمَقة، لكنها منزوعة ومجرّدة من بعض مضامينها الوجودية. الأخطر أن ثمة إرادة تريد أن تؤول العالم وفق منظورها، تختبئ خلف ما يبدو عقلانياً، موضوعيا ومحايداً.
ترفض العلمانية اللائكية بنسختها الفرنسية أن تستوعب أشد العناصر تنوعاً، وتمعن في المحاولة لصهرها في مصهر توليفي كبير
ليس المطلوب أن يقدّم الدنيويّ تنازلاتٍ على حساب المقدس، ولكن أن نحرّر هذا الأول من بعض الغرور الاكتفائي، والذي قد يقضي عليه. قد يبدو الفرد ممزّقاً، كما يقول دوركايم، بين تطلعاته الفردية الأنانية والواجبات الناجمة عن انتسابه إلى جماعةٍ أخلاقيةٍ لا تكاد تميز بين العاطفة والمعتقد، فالذي ينجرف وراء عاطفةٍ تدفعه إلى الإضرار بحياة الآخرين، يفعل ما يفعل، ظاناً أنه مُخْلِص للمعتقد ومُخَلِّص للجماعة من جريرة التعدّي الذي يطاولها من "السلطة الزمنية الفاسدة". وهذه آفة التأويل اللاديني للدين، الأمر الذي يحدُث حينما يكون الإيمان المشترك مهدّداً بأسباب عديدة داخلية وخارجية، وقتها تكون الحاجة ماسّة لإنقاذ وجود الدين كدين، في عالم ثقافي مرسوم بالفردنة وذوتنة أنساق الدلالة (راجع كتاب "سوسيولوجيا الدين"، لدانيال هيرفيو ليجيه وجان بول ويلام، ترجمة يوسف طاهر الصديق، هيئة البحرين للثقافة والفنون، المنامة، 2018).
وفي المقابل، نرى تأويلاً دينياً للعلمانية في مجتمعاتٍ تدّعى مغادرة الآلهة ساحتها العامة، لكنها ما برحت تبحث عن مصدر للطاقة، تمتح منه الشعور بوجودها الخاص، وتعيد، على أثره، بناء مثلها الأعلى، ولو أن يكون ذلك تأليهاً لرجالاتها، وتقديساً لأفكارهم التي باتت موضع إجماعٍ يحرم النيل منه. وهذه الكونية كونية مائلة، لكونها ترصد التعدّي في شأن قادتها الوطنيين، ولا تستنكره في شأن الزعماء الدينيين، ولو أن يكون سيد الأولين والآخرين (محمّد)، على الأقل من وجهة نظر المحبين والتابعين.