الحالة السودانية بين الانهزامية والواقعية السياسية
"كل قصيدة من قصائدي تدفن موتاكم" ... "أنيز كولتز، العالم يمشي معي، ترجمة الخضر شودار"
توقظ كل صرخة من صرخات الحرب في السودان عِرقاً ظننا أنه قد يبس واعتراه الموات، فالحرب لم تأت مصادفةً، بل كانت نتيجة انهيار منظومة قيمية وأخلاقية شملت جميع المؤسّسات السياسية والعسكرية والشرطية والدينية والطائفية، ومن ورثوا نظام الإنقاذ وجدوا الطريق ممشياً تُعَبِّده الرشاوي ويقننه شراء الذمم، فلم يكن هناك حائلٌ يمنعهم من الوصول إلى أهدافهم غير الثورة التي عملوا على تصفيتها بالتآمر مع "قادة الثورة" من المدنيين الذين تهافتوا يوما للقاء العسكر، قنّنوا لهم وضعهم القانوني في الوثيقة الدستورية، غضّوا الطرف عن جرائمهم التي شملت فضّ الاعتصام ورمي جثث الشهداء في النهر، الانقلاب على النظام السياسي العاجز واستبداله بنظام سياسي ينشد الديمقراطية، فلم يجد الفرقاء بدًّا من محاولة الاقتتال حبكاً لروايتي التمرد والفلول كي يتسنّى لأحدهما الاستفراد بالحكم.
تفضح حيثيات التفاوض في العواصم المختلفة كلا الفريقين، وتوضح أن دمار الوطن ومعاناة المواطن لم يكونا يوماً من ضمن اهتماماتهم، وأنهم شلة واحدة متّحدة تُفَرِّقها المصالح وتجمعها الغنيمة. لن يتعافى هذا البلد إلّا بالتخلص من اللجنة الأمنية لعمر البشير التي دأبت على استثارة النعرات العنصرية والقبلية، واستشاطت في نشر العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد مستخدمة البنادق المأجورة والنفوس المأفونة.
كانت الدولة القديمة متحفزة للتخلص من قوات الدعم السريع التي استخدمتها لخدمة أغراضها الخبيثة فترة، فاستنكف قائده الاستمرار في دور "البندقجي" (يقاتل ببندقيته نيابة عن آخرين)، بعد أن توفر له المال والرجال، وبعد أن أُعدت وهُيئت له المعينات الخارجية، فأراد أن يختطّ لنفسه درباً يُخرجه من الوصاية المحلية، ويجعله سيّد نفسه المرهونة طواعية ومن دون تبعيةٍ للوصاية الإقليمية والدولية. كان من الطبيعي لقائد "الدعم السريع" أن يستهين بالمجتمعيْن، السياسي والمدني، حتى ذاك العسكري، إذ رأى الجميع متماهين مع طموحاته ولاهثين وراء ثرواته، فلم يتوان لحظة عن المحاولة لابتلاع الدولة. وهنا حدث الشرخ الذي تغفل عنه "رواية الفلول" التي لا تصمد وهلة أمام الوقائع الميدانية التي عاشها كل الناس ولم تُصبح بعد تاريخاً يُحكى. كلاهما، الجيش والدعم السريع، كان متحفزاً ومتحيناً للفرصة التي يقضى فيها على الآخر. لربما استشعر الإسلاميون هذا الأمر بحاسّتهم الكيدية فاستثمروه سياسياً بعد أن أوقعوا الكلّ في مصيدتهم الإعلامية.
لم يعُد مهمّا سؤال: من بدأ الحرب؟ فقد أخرجت الأنفس أسقامها وظهر جلياً أن الأمة السودانية لم تكن بتلك العافية الأخلاقية المعهودة أو ذاك التسامي الإنساني المنشود، على الأقل في الأغاني والأهازيج؛ لكن المحيّر انقسام الشعب إلى فئتين: مؤيدة للدعم السريع تحت ذريعة الظلامات التاريخية وأخرى منحازة للجيش تحت مسمّى القومية والمؤسّسية، علماً أن قادة الدعم السريع لم يدخّروا جهداً في الانضمام لنادي الرأسمالية النهبوية يوم أن أتيحت لهم الفرصة، أمّا الجيش قد فارق تلكما المحطتين، القومية والمؤسّسية، يوم أن قرّرت الجبهة الإسلامية أدلجته في العشرية الأولى، ويوم أن قرّرت المجموعة المنقسمة على نفسها عنصرته (من العنصرية) في العشرية الثانية، فتدحرج تماماً نحو الخانة الشخصية يوم أن أصبح البشير رئيساً مؤبَّداً في العشرية الثالثة.
ليس للنخب العسكرية ولاء إلا لذاتها، ولا تعمل إلا للحفاظ إلا على مكتسباتها المادية والسيادية
عوضاً عن تبيان الحقيقة للعوام وإرشادهم نحو الطريق الصواب، وقعت النخب ضحية للمفاصلة الثنائية ذاتها التي عمدت إلى المفاضلة بين مجموعتين متحاربتين، علماً أن الذين يتصدّرون المشهد من العسكريين ما هم إلّا زمرة من المرتشين، القتلة، المجرمين، المطبِّعين جهرةً مع الكيان الصهيوني، والمتواطئين عنوةً مع الإمبريالية العالمية. يتسنّى للجيش أن يصف "الدعم السريع" بالتمرّد وكل منهما قد تمرّد على إرادة الشعب وأقصى مأربه في السلام والحرية والعدالة، بل كيف يمكن لهذا الجيش أن يخوض "معركة الكرامة" وقد تسنمت قيادته فئة عميلة وخائنة قد تخلت عن الشعب وعجزت عن حمايته في أحلك الظروف؟ وهي بعد لا تفتر عن مناشدة الشعب بالثبات فيما تنشط عناصرها في الهروب من المعترك، إذ لم يعد للجند حافز مادي أو معنوي لخوض المعترك، فيما تفرغ القادة العسكريون لتهريب الأموال وشراء الفلل في شتى مناحي المعمورة.
ما إن يئست النخب الحماسية والعاطفية التي أصابها اضطراب نفسي ورعاش عقلي من جراء التعويل على جيش الهنا (الحارس مالنا وعرضنا)، الذي توالت هزائمه، حتى سوّلت لها نفسها ابتداع فكرة "المقاومة الشعبية" علماً أن هذه تتطلب تماسكاً داخلياً كالذي توفر لكوبا وكوريا الشمالية، عقيدة قتالية كالتي توفّرت لحزب الله، قيادة كاريزمية كالتي توفرت، في وقت، للمقاومة الأفغانية وتلكم العراقية، إسناد خارجي وميزة جيو - استراتيجية تجعل من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل، اختراق الحدود الجغرافية للبلاد كالتي توفّرت لإثيوبيا في الحرب العالمية الثانية. تنتفي هذه الشروط كلها في الحالة السودانية، فالحرب الدائرة هي بين مواطنين سودانيين، رغم أقوال المغرضين والمدّعين الذين في حماقتهم يغفلون عن حقيقة مهمّة، مفادها بأن هذا القتال رغم ضراوته هو بين إخوة في العقيدة والوطن. بل يدرك من يدعمونه خارجياً أن كسر شوكة العرب من شأنها أن تقصم ظهر السودان، إذ هو في الأصل قتالٌ بين العرب الرعويين والعرب النيليين.
هذه سياسة متعمّدة القصد منها إنهاك الشعب السوداني والقضاء على قدراته العسكرية، لكن العسكريين، المفترض أن يكونوا استراتيجيين، يهملون هذا الأمر، كما أن المدنيين فقدوا رشدهم وثبات أفئدتهم، إذ استعرت الهوية وأشهرت كل إثنية سلاحها، فلم يجدوا بدّاً من الخضوع نفسيا وعقليا لعاطفتهم البدائية التي تستدفعهم للانضمام لمعسكراتهم القبلية والمناطقية. أمّا من انحازوا من النخب النيلية للدعم السريع، تحديداً قوى الحرية والتغيير وتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدّم)، فقد حكّموا مبدأ الواقعية السياسية التي هي في الأصل انهزامية سياسية تجعل المرء ينحاز لفئةٍ تتشدّق بالديمقراطية والحقوق المدنيّة فيما ينتهك أفرادها أبسط قواعد الإنسانية، المروءة، والخلق القويم.
لا يمكن أن يكون فشل الإسلاميين بمثابة "مشروع حضاري" لـ"الحرية والتغيير" و"تقدم"، فلتبحث السيدة الفاضلة عن حيلة أخرى ناجعة
ليس للنخب العسكرية ولاء إلا لذاتها، ولا تعمل إلا للحفاظ إلا على مكتسباتها المادية والسيادية. وقد كان حرياً بالنخب المدنية أن تستفيد من تجربة النخب الدارفورية التي أوْلَت قادة الحركات يوماً تأييداً مطلقاً وساندتهم مساندة كاملة جعلت الآخرين يعتقدون في أنفسهم أحقية وقدسية من دون أن يمتلكوا الكفاءة الأخلاقية أو أن يحوزوا المقدرة الفكرية اللازمة لحمل هموم الشعب المغلوب، أو أن يحفلوا بمستحقاته في الأمن والعيش الكريم، إنما فقط اعتماد حيل الانتهازية والميكيافيلية والوقاحة السياسية التي تهيّئ لهم فرص التأمين لمكاسب شخصية. يجب أن يخضع العسكر من الآن لمواجهات مدنية تُغَلِب مبدأ الشفافية والمحاسبية، وتعتمد سبل التخطيط العلمي والاستراتيجي. بنهاية الوصاية العسكرية على الشأن السياسي المدني، تكون هذه الحرب قد حققت إحدى أهم نتائجها الثانوية والجانبية الرامية لرسم المصير الوطني للأمة السودانية بعيداً عن تطلعات المليشيات وبمنأى عن طموحات "الجيش النظامي".
دُهشت إذ رأيتُ نخب قوى الحرية والتغيير في إثيوبيا في الرابع من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) تهرع إلى لقاء السيد "القائد" وهي متلهفة وولهة يستدفعها الطمع ويحثها المأرب فذكرتني تلك الحيثية بمسرحية "المومس الفاضلة" للفيلسوف جان بول سارتر، فهم أي قادة "الحرية والتغيير" و"تقدّم، في كل مرة يتم استرضاؤهم بجملة من الشعارات وحفنة من الدولارات، لكنهم هذه المرة كانوا في شغل عن ذلك كله بمشاهدة ولي نعمتهم … أي والله … وقد توهّموا موته وعُنوا حيناً من الدهر بخبر مقتله. كيف لا وهو يمثل إكسير الحياة بالنسبة لهم في هذه المرحلة بالذات التي أصبحوا فيها فئة منبوذة لا يقلّ دورها في إذكاء نار الحرب عن دور الفلول، بيد أنها لا تملك الشجاعة الأدبية التي تنافح بها عن "الدعم السريع"، وكثيرا ما تكتفي بالتعريض "بالفلول" الذين لا يحتاج المواطن فقرة دعائية للتذكير بجرائرهم، لكن ما نحتاجه هو التعريف بالمشروع الفكري لقوى الحرية والتغيير وتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، وقد رأينا خذلانها الشعب في محطّات عدة وخبرنا بؤسها الأخلاقي والمهني، وعانينا من ضعف أداء حكوماتها المتعاقبة. باختصار، لا يمكن أن يكون فشل "الكيزان" (الإسلاميين) بمثابة "مشروع حضاري" لـ"الحرية والتغيير" و"تقدم"، فلتبحث السيدة الفاضلة عن حيلة أخرى ناجعة. لا تحدّثونا عن "الكيزان"، فالشعب قد انتفض عليهم وعرف مخبأهم، حدّثونا عن مشروع لكم يحرُسه "الأشاوس" الذين لن يتوانوا عن سحقكم في اللحظة الحرجة، وقد زعموا وعزموا على أن يكون الفريق عبد الفتاح البرهان هو آخر ملوك الجلابة!