سيرة انحدار وموت ابن
لم أعد أتذكّر التاريخ تماما، ما أتذكّره أنه كان في بداية الألفية الثانية (ستعتقدون أن الحدث الذي سأتذكّره بالغ الأهمية)، حين قدّم تلفزيون المستقبل (اللبناني) أمسية خاصة بتكريم جورج وسّوف، مستضيفا فيها ملحّنين وكتاب أغنية ومغنّين وشعراء كبارا من شعراء الحداثة العرب، في سهرةٍ تلفزيونيةٍ مخصّصة لمدح ذلك الصوت العبقري المثقف (كما سمّاه شاعر حداثي راحل) الاستثنائي في الأغنية العربية. كانت السهرة تلك بالنسبة لي دليلا على فكرة التهافت، وشكّكت أن صنّاعها دفعوا مبالغ طائلة كي يقولوا ما قالوه، ذلك أن المدائح التي قيلت في جورج وسّوف قد نقبلها، لو قيلت في مدح صوت استثنائي، كأم كلثوم مثلا، أو ظاهرة فنية كفيروز، وربما نتسامح لو قيلت في حقّ وديع الصافي أو صباح فخري، أما عن جورج وسّوف فكان هذا بالنسبة لي ترويجا مدفوع الثمن للرداءة الفنية.
سوف يغضب مني عشّاق جورج وسّوف، إذا قرأ أحدُهم هذه السطور، فهو جزءٌ من ذاكرة لجيلين من أجيال العرب، راهقوا وكبروا وعشقوا وخابوا وفازوا، وكانت أغانيه الأنيس لهم في كل الحالات، في المدرسة وفي الجامعة وفي التجنيد وفي الشارع، في كل مكان، كان جورج وسّوف مرافقا لهم. لكن هل هذا يكفي ليستحقّ مغنٍّ ما كل تلك المدائح؟ حتما لا، لكن أيضا ينبغي تفهّم "الوسّوفيين" كما يحبّون أن يُلقّبوا.
ظهر جورج وسّوف في مرحلة كانت الأغنية العربية فيها تحثّ خطاها نحو الانحدار، حين وجد الملحنون في صوته الفتي (التينور) صاحب الجواب القوي الذي يمتلك عشرين درجة أوكتاف، الحنجرة المناسبة لتجريب ما لم تقدِر أصوات تلك المرحلة على أدائه، فانهالت عليه الألحان، وأظنّه وقتها حظي بمستشارين فنيين أذكياء، ساعدوه على انتقاء الالحان الطربية المألوفة في الوجدان السماعي العربي. ومثل الألحان، انهالت عليه العروض لإحياء الحفلات في النوادي والمطاعم والمناسبات الخاصة، وهو في أول شبابه، وانتشر صوته بسرعة بين شباب تلك المرحلة: شاب من سنّهم يغني كلمات تشبههم بألحان تتشبه بمطربي الزمن الجميل، في وقت كانت الألحان التي تظهر فيه سهلة وبلا روح بأصوات ضعيفة وبلا روح.
ولكن صوت جورج وسّوف الذي يتحدّث المختصون عما ميّزه، وعن النضج الذي حصل له حين دخل وسّوف في ثلاثينياته، سرعان ما بدأ يتراجع ويقف عند مرحلة بين الطفولة والنضج، لم يغادرها إطلاقا. لكنها، ويا للعجب، شكلت مدرسة لمجموعة من المغنين اللاحقين الذين يمتلكون الحنجرة نفسها، ولم يتمكّنوا من تجاوز ما قدّمه هو إطلاقا. بالنسبة لي، يسبّب هذا النوع من الصوت لي التوتر. لهذا لم أستطع يوما سماع أغنية كاملة لجورج وسّوف، وحين كنت أسمعُه يغنّي لأم كلثوم بصوته المتحشرج كنت أتمنّى لو أقتله (هذه مبالغة ضرورية للتعبير عن الغضب). ولكن من قال إن الذائقة الشخصية هي المعيار؟ لا بأس، لنترك الآخرين كلا لما يهوى.
ماذا عن جورج وسّوف السوري خلال العقد الماضي؟ كيف سيبرّر محبّوه تلك الطريقة التي أذلّ بها نفسه وأهانها أمام مصّاصي دماء الشعب السوري (لا أتحدّث هنا عن موقفه من الثورة)، وماذا عن صوره وفيديوهاته وهو ينحني ويقبل أقدام فاسدين وتجّار سلاح ومافيات مخدّرات وسفلة ومجرمين بكل معنى الكلمة؟ أما ما تلفظ به بحق زملاء له من شتائم بذيئة لموقفهم المؤيد لثورة السوريين فهو يتناسب تماما مع سياق السلوك السابق في التذلّل والانحدار.
مات ابنه قبل أيام، وهي مأساة فادحة لأي أب، إذ لا شيء أقسى وأشدّ هولا من أن يدفن الوالد ابنه. ومن المعيب التحدّث عن سبب موت ابنه، أو اعتبار السبب عقابا عن شماتته بموت السوريين في حصار الجوع. لا يميّز الموت بين معارض ومؤيد، ولا يفرّق بين شامت ومتضامن، إنه يختار الجميع، ويحمل معه كل المتصارعين والمختلفين، ويضعهم في مكان واحد. ولأن عدالة الموت حادّة كما النصل، فربما يقف "سلطان الطرب" كما يسميه محبّوه، قليلا أمام نفسه، ويراجع ما فعله بها خلال السنوات الماضية. ليس مطلوبا منه الاعتذار من السوريين، ولكن لعل ما يمر به الآن يجعله يتذكّر مئات آلاف الآباء السوريين الذين دفنوا أبناءهم الذين فتكت بهم بيادات السفلة الذين اعتاد وسّوف على الانحناء لها، ويا ليته اكتفى بالانحناء، ولم يفعل ما نتعفّف عن ذكره رأفةً بمحبّيه.