مطبّلو المرحلة... متى ستنتهي هذه العقلية؟
في لقاء معه قبل عشر سنوات تقريباً، سئُل الفنّان السوري المُعارِض، جمال سليمان، عن إمكانية ترشّحه لمنصب رئيس الجمهورية فيما لو سقط نظام الأسد، فأجاب إن هذا وارد جدّاً، فهو سوري ومن حقّ أيّ مواطن سوري الترشّح لهذا المنصب، أسوة بالأنظمة الديمقراطية. بعد سقوط نظام الأسد، عاد السؤال نفسه ليُطرَح على سليمان، ولم تختلف إجاباته في كلّ مرة عنها في المرّة الأولى: "الترشّح لمنصب الرئاسة حقّ من حقول المواطن السوري، ونحن نريد بناء دولة ديمقراطية منصب الرئيس فيها يُتداول سلمياً عبر الانتخابات الحرّة والنزيهة". ولا كلمة ممّا قاله الفنان المعروف، في لقاءاته كلّها، عن هذا الأمر يمكن أن تدينه. على العكس، هو يقول ما نحلم به جميعاً، نحن الذين نريد أن نرى بلادنا حرّةً وديمقراطيةً وعادلةً مع جميع مواطنيها.
لكن فجأة، بعد تصريح له أخيراً عن هذا الشأن، إثر حوار له مع نقابة الصحافيين المصريين حول الأوضاع في سورية، قامت قيامة جزء من السوريين على جمال سليمان كما لو أنه ارتكب إثماً عظيماً. وبدأ الذباب الإلكتروني بتنظيم حملة في مواقع التواصل تستهدفه، وتسيء إليه وتشتمه، شارك فيها (للأسف!) مثقّفون سوريون، وعاملون في وسائل إعلامية سورية يُفترض أنها تُعنَى بالسوريين على اختلاف آرائهم. من حقّ الجميع الاعتراض على أيّ تصريح أطلقته شخصية عامّة مثل جمال سليمان، وتفنيد هذا التصريح أو ذاك، في سياقات النقاشات السورية بشاًن مستقبل سورية، لكن ليس من حقّ أحد التخوين أو التعرّض لسمعة أحد أو الإساءة له، لمُجرَّد أنه يتحدّث عن حقّ من حقوق السوريين.
في زمن الأسدَين (الأب والابن)، كان الحديث عن منصب رئيس الجمهورية بمثابة الجُرم الذي يستحقّ صاحبه العقاب والاعتقال والاختفاء وتشويه السمعة والتاريخ، وحرمان صاحبه من حقوقه المدنية. كان من أهداف نضال السوريين خلال الثورة السورية، وعبر ما يقارب 14 عاماً، الوصول إلى لحظة يتمكّن فيها أيّ سوري من الحديث عن هذا المنصب كما يشاء، ومن انتخاب من يشاء له، ومن أن يحلم أيّ سوري أو سورية بالوصول إلى كرسي الرئاسة من دون أن يخاف من ذلك. لكن ما يظهر من "تشبيح" على كلّ من يفكّر خارج المتوفّر يصيب باليأس حقّاً، ذلك أن هذه الحملات التي تُشنّ ضدّ أشخاص دفعوا أثماناً باهظةً نتيجة موقفهم المؤيّد للثورة، لكنّهم لم يطبّلوا للسلاح والأسلمة طوال الفترة الماضية، وظلّوا محافظين على خطّهم السلمي والديمقراطي، تطلب من الجميع الولاء لسلطة الأمر الواقع بأيديولوجيتها كلّها، وكأنّها قدر آخر سوف يُفرَض على السوريين، وكأنّ زمن الأسد سوف يستعيد نفسه في حلّة أخرى.
هل تلك الأثمان كلّها، التي دفعها السوريون، كانت لاستبدال نظام شمولي مستبدّ محاط بشبّيحة تقتل كلَّ من تسوّل له نفسه التفكير بالاعتراض بنظام آخر، لديه شبّيحة يقتلون معنوياً كلّ من تسوّل له نفسه الاعتراض؟ هل يدرك هؤلاء المطبّلون لهيئة تحرير الشام وحكومة إنقاذها ماذا يفعلون، وأيّ نهج يكرّسون في سورية، التي دمّرتها منظومة مشابهة لم تجلب سوى الخراب والموت والفقر والظلم. لست هنا بصدد الدفاع عن جمال سليمان، فهو لم يقل ما يستوجب دفاعاً عنه، لكن من واجبنا جميعاً التنبيه إلى ضرورة بتر هذه الذهنية التشبيحية، التي تعمل بقصد أو من دون قصد لتكريس استبداد جديد.
في واحدة من أجرأ حلقات المسلسل السوري الشهير "بقعة ضوء"، تستدعي مديرة مدرسة ابتدائية والد طفل سألته معلّمته عن طموحه للمستقبل، فيجيبها بأنه يحلم أن يصبح رئيس جمهورية. تقوم قيامة المعلّمة وإدارة المدرسة ووزارة التربية، ويُستدعى والد الطفل ويُوبَّخ، ويُطلَب منه معاقبة ابنه وإعادة تربيته تربية صالحة خاليةً من الطموح السياسي. ... هل ستعود هذه السردية لتكون الوحيدة في المجتمع السوري؟ هل سنعود إلى الخوف من طرح آرائنا وأفكارنا ومخاوفنا وأحلامنا وغضبنا ممّا نرى ونعيش، كي لا نثير حفيظة الحكّام الجدد وشبّيحتهم، أم أن هؤلاء سوف ينتبهون قريباً إلى طريقتهم في تدمير منجز النصر والثورة ووأد الحرية الوليدة، قبل أن تتمكّن سورية من التقاط أنفاسها؟