كيف يسيئون للعلمانية
في معرض دفاعهم عن الدولة الإسلامية التي يبدو أن سورية في طريقها إليها حسب ما يبدو من استفراد سلفيّي هيئة تحرير الشام في إدارة شؤون البلاد، وامتناعهم عن الحديث عن أيّ تداول للسلطة أو عن شكل الدولة المقبلة، ورفضهم نطق كلمة ديمقراطية حتى اللحظة... في معرض هذا الدفاع، يتحدّث المؤيدون لهذا النمط من الحكم أن من حقّ الإسلاميين أخيراً أن تكون لهم دولتهم، طالما هم الأكثرية في سورية، وهم من حرّرها (من يحرّر يقرّر)، كما أن العلمانيين أخذوا فرصتهم التي أوصلت سورية إلى الهاوية، ثمّ يعدّدون ما فعله نظام الأسد العلماني، حسب وصفهم، من جرائم بحقّ سورية والسوريين منذ استلامه الحكم حتى لحظة فرار بشّار الأسد.
في الحقيقة، ما يردّدونه ليّ أعناق حقائق مؤكّدة لا يريدون الاعتراف بها، أو على الأقلّ لا يريدون رؤيتها، فالأكثرية السورية مسلمة نعم، لكنّها ليست إسلاميةً سلفية. هذا نوع من التعدّي على الحقائق بقدر ما هو إساءة بالغة للسوريين، فالإسلام السوري لم يكن يوماً سلفياً، هو متنوّع ومختلف ومتعدّد، والبارز فيه التيّار الصوفي المعادي صراحة للسلفية، وهذا ربّما سيقف بقوة في وجه السلفيين، ومحاولاتهم فرض أيديولوجيتهم على عموم السوريين.
النقطة الأخرى هي الإساءة للعلمانية بالترديد المتواصل أن نظام الأسد كان علمانياً، بينما هو نظام مافياوي طائفي شمولي ومستبدّ، لا يمتّ بأيّ صلةٍ للعلمانية، لا من قريب ولا من بعيد، فالعلمانية هي نظام حكم يُقرَّر في الدستور، يساوي بين جميع المواطنين بالحقوق والواجبات من دون تمييز لا في الجنس ولا في العقيدة ولا في العرق. في العلمانية، لا يوجد دين للدولة ولا لرئيس الجمهورية، يحقّ لأيّ مواطن الترشّح لمنصب الرئيس طالما تتوفّر فيه الشروط المُضمَّنة في الدستور. الآن، لو عدنا إلى الدساتير السورية المعمول بها فترة نظام الأسد، هل يوجد فيها ما يقترب من العلمانية؟ في الدستور السوري دين الدولة هو الإسلام وعلى الرئيس السوري أن يكون مسلماً، وهذا (بالمناسبة) شكّل عقبةً حين قاد حافظ الأسد ما سمّاها "الحركة التصحيحية" (1970)، وأراد استلام الحكم، ذلك أن العلويين قبل ذلك لم يكونوا محسوبين على الإسلام في الأدبيات الدينية، ما استدعى إصدار فتوى شرعية من الأزهر الشريف في مصر، بالاشتراك مع رئيس الطائفة الشيعية الأعلى في ذلك الوقت، موسى الصدر، (اختفى بعد سنوات قليلة في ليبيا) تنصّ على اعتبار العلويين فرقةً من فرق الشيعة المسلمة، ويُحرَّم تكفيرها. إذاً لم يحكم آل الأسد بالاستناد إلى دستور علماني، بل تحايلوا على الوقائع التاريخية، بتواطؤ من أكبر مرجعيتَين دينيتَين في العالم العربي. مع أن حافظ الأسد وقتها كان قادراً على تغيير الدستور وتحويله دستوراً علمانياً، وفرضه على السوريين (على طريقة أتاتورك)، لكنّه شخصياً لم يكن يؤمن بالعلمانية التي تلزم أن يكون شكل الحكم ديمقراطياً، بينما كان حافظ الأسد يخطّط للبقاء الأبدي في حكم سورية.
يمارس مؤيّدو الدولة الإسلامية إرهاباً فكرياً عبر تعميم ربط العلمانية بالنظام السوري السابق، وعبر ربطها بالكفر، مع أن العلمانية أكثر أنظمة الحكم احتراماً للعقائد، وربطها بالإجرام والاستبداد، مع أنها نظام حكم يُعلي من شأن العدالة وحقوق الإنسان، بينما لم تقدّم أنظمة الحكم الدينية المعروفة حالياً (إيران وأفغانستان) سوى نماذجَ شديدة الوضوح عن التمييز والقمع والإقصاء والظلم والتعدّي على الآخرين، والانتقاص من الكرامات الفردية، والاعتداء على حقوق النساء والأطفال والأقلّيات، وانعدام المواطنة، والترهيب باسم الدين والشريعة. في المقابل، نرى دولاً أخرى تحكمها أحزاب إسلامية يسودها العدل والازدهار والنجاح والتقدّم واحترام المواطنة (تركيا وماليزيا وإندونيسيا)، وهذه الدول ذات دساتير وأنظمة حكم علمانية وديمقراطية، لا تتميّز فيها فئة من أخرى ولا جنس من آخر.
سورية اليوم أمام مفترق طرق خطير، يعزّز خطورته الخطاب الإقصائي مرتفع النبرة، الذي يحاول تكريسه حُكّام الأمر الواقع عبر شموليتهم في الإدارة والحكم، وعبر محاولات فرض نمطهم على سورية المتنوّعة، وعبر السماح لـ"شبّيحتهم" وعناصرهم بانتهاك كرامة كلّ من يختلف مع التوجّه السلفي الذي يريدونه لسورية، أو مع ورؤيتهم لشكل الحُكم المقبل.