سقوط في امتحان ريان

10 فبراير 2022
+ الخط -

كان الوقت قصيراً جداً ما بين خبر الوصول إلى الطفل العالق في البئر منذ خمسة أيام وخبر موته! لم يكف ذلك الوقت للوصول إلى معرفة مشاعرنا تجاه ما حدث، ولا نتيجتنا في اختبار الإنسانية الذي شارك فيه كثيرون من سكان الكرة الأرضية. لم تكفنا خمسة أيام للتأكد من صدقية مشاعر العالم تجاه حالة مفرطةٍ في سمْتها الإنساني، ولا بضع دقائق إضافية لاختبار مشاعرنا ما بين الفرح بخروج الطفل حياً والحزن على نهايته الغامضة ما بين البئر وسيارة الإسعاف .. لكن أيّاً كانت النتيجة، فقد علمتنا، على الأقل، أنّ خمسة أيام من التعاطف العالمي مع حالة الطفل الذي سقط في بئر عميقةٍ بقريةٍ مغربيةٍ صغيرة لم تكن لتستطيع إنقاذه حياً، ولا إنقاذنا نحن البشر من كلّ ما علق بأرواحنا على مدى تاريخ البشرية كلّها من شوائب سامة.

حظيت تلك الحالة باهتمام عالمي غير مسبوق في مثل تلك الأحوال، ربما بسبب التعاطي مع الخبر عبر وسائل التواصل، أو بسبب القصة الموغلة في تفاصيلها الإنسانية على هامشٍ من فقر تعيشه القرية بدا واضحاً في ما انتشر لها من صور ومشاهد طوال فترة محاولات الإنقاذ. لكن ما رشح من ذلك التعاطف الكبير أنّه كان بوابة أيضاً للاستغلال بكلّ أشكاله وأنواعه. لم يتورّع مثلاً كثيرون عن استغلال الحادثة في التربّح المادي المباشر، ففتح بعضهم حسابات جديدة على وسائل التواصل لجمع التبرّعات باسم والدة ووالد الطفل اللذين كانا غارقين في مأساتهما الشخصية، غير مكترثين بما يدور عنهما وحولهما. والأغرب أنّ هناك من اجتهد في ابتكار وسائل للتربّح المادي بشكل سريع جداً، فانتشرت أزياء مطبوع عليها صورة الطفل ريان بابتسامته الجميلة مع اسمه، ولم ينسَ من نشر تلك الصور وضع أسعار الأزياء الجديدة وأسعار توصيلها إلى من يحبّ من المتعاطفين مع ريان بأقصى سرعة! أما أسوأ صور الاستغلال لتلك الحادثة وتداعياتها في الوجدان الإنساني كلّه فهو ما بادر إليه بعض محسوبين على الإعلام، بكلّ تجلياته القديمة والجديدة. لم يكتفوا باستنطاق والديه من دون احترام لمشاعرهما والظرف العصيب الذي يمرّان به، ومحاولة إلقاء اللوم عليهما في حادثة سقوط ابنهما في البئر، بل تجاوزوا نحو أسئلةٍ لا يمكن أن توصف إلّا بأنها قاتلة لهذين الأبوين المفجوعين. أما الأخبار الكاذبة والمزوّرة والتصريحات الملفقة فقد كانت أكثر مما يمكن رصده على هذا الصعيد، من دون أي احترام لخصوصية العائلة ولا القرية بأسرها، ولا حق المتلقي في معرفة القصة الحقيقية وحسب.

لم يسقط ريان، رحمه الله، في تلك البئر، بل ما سقط هو المعنى الإنساني للتعاطف الذي أخضع كلّ شيء تقريباً لحسابات الربح والخسارة الماديين، ولم يتركنا كجمهور ملهوف على طفلٍ قاده حظه إلى أن يكون بؤرة اهتمام آني من وسائل الإعلام التي لا تشبع من المآسي والقصص الحقيقية، فتحاول تزوير ما تصل إليه من حقائق لتحقيق أعلى إيراداتٍ ماديةٍ على حساب الضحايا وذويهم غالباً، وعلى حساب الجمهور الذي يساهم أيضاً، من دون وعي حقيقي منه، بعملية التزوير عبر القبول به والبحث عنه لإسكات نفسه اللوّامة كما يظن.

نعم .. انتهت الأيام الخمسة التي علقنا فيها كلنا تقريباً مع ريان في منتصف البئر العميقة، لكنّه خرج أخيراً وتركنا هناك. نبحث عن حالاتٍ أخرى نمارس فيها إنسانيتنا المنهكة ساعات أو أياماً أو شهوراً أمام ميكروفونات القنوات الإعلامية المختلفة وعدساتها، وفي حساباتنا الشخصية على وسائل التواصل.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.