زمن التلفيق
قبل أيام، كنت أسجّل شيئاً ما باللغة العربية الفصحى في استديو مع تقني خاص بالصوت. وأنا أستمع معه إلى النسخة النهائية، انتبهنا إلى خطأ لغوي ارتكبته في أثناء القراءة، فطلبتُ منه أن أعيد التسجيل كله، كان الخطأ بمثابة الفضيحة لشدة وضوحه ولا أقبله على نفسي، لكنه رفض الإعادة، وقال إنه سوف يصلح الأمر بعد دقائق. وبالفعل، لم تمض عدة دقائق حتى طلب مني أن أدخل غرفة التسجيل لأستمع. كان الخطأ قد زال وعاد لفظي صحيحاً. ذهلت حين أخبرني أن ما فعله مطابقة للصوت بين التسجيل الذي يحتوي على هذا الخطأ والكلمة نفسها من تسجيل آخر في محاولاتنا للوصول إلى التسجيل الأمثل، وأنه يستخدم لهذا "أبليكيشن" خاصاً محمّلاً على جهاز الماك خاصته. واستديو التسجيل هذا هو غرفة فيها ميكرفون موصول بجهاز ماك فقط، أي أنه ليس ضخماً بتقنياتٍ ضخمة متطوّرة.
حين عدتُ من التسجيل، طلبت من سائق "أوبر" أن أستمع إلى إذاعة الأغاني القديمة. كانت شادية تغني أغنيتها الجميلة "خلاص مسافر"، وهي من ألحان العبقري بليغ حمدي وكلمات محمد حمزة. ولأول مرة، أنتبه إلى أداء شادية الساحر في هذه الأغنية وإحساس صوتها النادر، وهو يحنّ وينتقل بحزنٍ بين مقامي الصبا والبياتي، في تشديدٍ على مخارج الأحرف واللفظ، بحيث لا يمكن أن تفوت المستمع كلمة واحدة من كلمات الأغنية. واللافت أن التسجيل الذي بثته إذاعة الأغاني كان من حفلة أمام الجمهور، حيث لا شيء يمكنه أن يخفي أخطاء الصوت إن وُجدت، وحيث المغنية وحدها مع فرقتها الموسيقية المكونة من آلات شرقية تتبع النوتة بحرفيةٍ بالغة، وميكرفون بعيد عن فمها مسافة تكفي لإظهار صوتها على حقيقته.
وتتالت الأغاني القديمة عبر إذاعة الأغاني في طريقي إلى البيت: محمد رشدي، فايزة أحمد، سعاد محمد. وانتهبت أن لكل منهم صوتاً خاصاً ومميزاً، ولكل صوت مقدراته الكبيرة على الأداء في مختلف المقامات. كانت أصواتاً مدرّبة ومثقفة وتتقن الأداء اللفظي والموسيقي معاً من دون أن يكون هناك مجال لأي نشاز لفظي أو موسيقي، مثلما كان الملحنون مثقفين ومتابعين كل موسيقا العالم وتنويعاتها ومقاماتها وآلاتها، ولديهم جرأة التجريب والتنويع والمزج، وحتى الاستعارة، مع الاحتفاظ بخصوصية مدارسهم الموسيقية.
نعيش الآن في زمن التلفيق الفني، حيث بإمكان أي أحدٍ أن يغنّي أو يلحّن، مهما كان صوته هزيلاً، ومهما كانت مقدرته على اللفظ متواضعة، لا تدريب ولا إحساس ولا ثقافة موسيقية ولا معرفة بالمقامات ولا حتى حضور شخصي قوي يمكن التعويل عليه، ولا يمكن التمييز بين هذا الصوت أو ذاك، ولم يعد وارداً أيضاً التمييز بين شكل هذه المطربة أو تلك بعد سلسلة عمليات التجميل التي جعلت منهن نسخاً متشابهة.
يبدو أن دور المطرب الفرد صاحب الصوت الاستثنائي والحضور الفريد انتهى، مثلما انتهى دور الملحن الفذّ المطلع على المدارس الموسيقية الشرقية والغربية. دخلنا في دور التشابه في الأصوات الغنائية، مثلما دخلنا مرحلة الجملة اللحنية الواحدة والوحيدة، أو على الأصح، دخلنا في عصر الآلة الغنائي، حيث يمكن للتقنيات الصوتية الحديثة أن تحسّن أي صوت عبر إدخاله في برامج خاصة بالكومبيوتر ووضع إضافات عليه وتحسينه وإخفاء عيوبه، مترافقاً مع خليط عجيب معدنيّ الإحساس في الموسيقا المصاحبة، والتي عادة ما تكون جاهزة وتتم إضافة الصوت عليها لاحقاً.
البطولة حالياً في عالم الفن والغناء هي لمهندسي الصوت البارعين في مهنتهم، هم الذين يجعلون الأصوات الباهتة مقبولة إلى حد ما، وهم الذين يصحّحون أخطاء الأداءات غير الصالحة، كما حدث معي قبل أيام. أو لنقل إن البطولة هي للذكاء الصناعي الذي يساعد عديمي الموهبة والحضور على أن يكونوا أصحاب شأنٍ في مجالات كانت مخصصةً لأصحاب المواهب العظيمة والجادّين والساعين إلى التفرّد والتميز والإبداع وتكريس حياتهم لتقديم الأفضل والمتميز في مجالاتهم.
وجدت الفنون كلها، الموسيقا والغناء في أولها، لتقليل مساحة القباحة في العالم، لجعل الجمال منارةً يركن إليها الوجدان الفردي والجمعي للبشرية، عبر اكتشاف الجمال في الفرد، عبر تجيير كل شيءٍ لخدمة الجمال. بينما ما يحدُث حالياً هو نكران للجمال لصالح القباحة، هو تزييف القباحة لتخرج لنا بكل هذا الهراء المسمّى، تلفيقاً، غناء.