ردم الفجوة بين الفن والجماهير

30 ديسمبر 2023

(شارل خوري)

+ الخط -

اختتمت فعاليات مهرجان الجونة السينمائي في دورته السادسة التي تأجّلت من موعده في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بسبب حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الصهيوني علي غزّة؛ ثم افتتحت الدورة في 14 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، لتسلط الضوء على السينما الفلسطينية ضمن برنامج ألحق بالبرنامج الرئيسي، ويضم 16 فيلماً من فلسطين وعنها؛ هذا بالإضافة إلى الإعلان عن التبرع بخمسة ملايين جنيه مصري دعماً لغزّة، في مبادرة تُحسب لصنّاع المهرجان الذي كانت دورته استثنائية حقاً بكل معنى الكلمة، خصوصاً على مستوى التغطية الإعلامية له، والتي يمكن القول إنها، ولأول مرّة منذ تأسيس المهرجان، كانت على مستوى من الجدّية لم نعهدها في الدورات السابقة. 
ركّز الإعلام في هذه الدورة على النشاط السينمائي والفعاليات المرافقة من ندواتٍ وورشاتٍ عملٍ ولقاءاتٍ متنوّعة، ما أظهر جدّية المهرجان وأهمية ما يقدّمه من عروض وأفلام ودعم لمشاريع سينمائية وليدة تحتاج لتمويل كي تُنجز، أكثر بكثير من تركيزه على أزياء النجوم وفساتين النجمات التي عادة ما تثير ضجّة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، يتم فيها شتم الفنانين واعتبارهم سبب خراب هذه الأمة، وشتم الفن عموماً والتعامل معه بوصفه فجوراً وفسقاً وهادماً للمجتمع.
ربما يجب هنا التنويه بأن دورة هذا العام ألغت السجادة الحمراء، واستعاضت عنها باللون الترابي، وألغت كل المظاهر الاحتفالية، في رمزية تضامنية بالغة الأهمية، خصوصاً بعد فعاليات مهرجان البحر الأحمر التي حفلت بالمظاهر الاحتفالية، لا في فقرة السجادة الحمراء فقط، بل أيضاً في استضافة نجوم غناء أحيوا سهرات وحفلات جرى نقلها على الهواء مباشرة، وتناقلها على وسائل التواصل الاجتماعي. بينما التزم غالبية ضيوف مهرجان الجونة بلباس محتشم يميل إلى الأسود والألوان العاتمة، كان متفقاً عليه من إدارة المهرجان من جهة احتراماً للظرف العام. ومن جهة ثانية، فرضه ربما الطقس المائل للبرودة في منتصف ديسمبر، على عكس الدورات السابقة التي كانت تعقد في سبتمبر وأكتوبر، حيث الطقس حارّ جداً. وقد ظهر هذا حتى في لباس النجمات في الندوات العامة اللواتي ارتديْن الكاجوال وبمكياج خفيف وشعر طبيعي بدون مبالغات في أي شيء. وهو، عموماً، ما يجب اعتمادُه دائماً في مهرجانات السينما خارج حفلتي الافتتاح والاختتام اللتيْن تتطلبان السجادة الحمراء، وما تستلزمه من لباس خاصّ بها. 
شكّلت السينما الظاهرة الفنية الأكثر أهمية في القرنين، الماضي والحالي، حيث شهدت تطوّراً مذهلاً على كل المستويات، لا سيما التقنية، ما جعل منها فناً بالغ النخبوية وفناً شعبياً وعاماً في الوقت نفسه، هذه المعادلة في الجمع بين المستويين لا يستطيع أن يقدّمها أي نوع آخر من الفنون. لهذا لطالما كانت السينما لسان حال الشعوب، ولطالما كانت الوثيقة الأكثر نبلاً وصدقاً عن الحدث التاريخي الماضي وعن الحاضر، وربما هي الفن الأكثر استشرافاً للمستقبل، والذي يمكنه أن يجمع كل الفنون في ساعاتٍ قليلة، خصوصاً مع دخول السينما في عالم التجريب علي المستويين البصري والتقني، وأيضاً على مستوى الإخراج والسيناريو. 
تجعل هذه القيمة لفن السينما من المهرجانات السينمائية أمراً مهماً، وليس مجرّد ترفٍ وترفيه، كما يعتقد كثر في عالمنا العربي، ففي هذه المهرجانات يلتقي صنّاع السينما، ويضعون خططاً لتقديم منتج سينمائي رفيع، مهمّته المساعدة في وضع معايير جديدة للفنون وأهميتها ولقيمة الجمال في الحياة؛ الجمال بوصفه قيمة عامة، تشمل العدالة والحرية والإنسانية التي تتصدّى للظلم والقوة والاستبداد والقتل. ولعل في أوضاع مثل أوضاع عالمنا العربي الحالية، وفي العجز العام الذي نعيشه جميعاً أمام آلة القتل الشرسة وأمام حروب الإبادة التي تتعرّض لها شعوبنا، لا نجد منجى سوى الفنون لتوصل صرخات احتجاجنا ووجهات نظرنا وحكاياتنا الحقيقية إلى العالم. 
لا ترتقي المجتمعات ولا تتطور بدون الفنون، هذا أمرٌ يجب أن يعمّم وأن يكون جزءاً من وعي الشعوب. ولكن ليحدث هذا، يجب أن يكون صنّاع الفنون على قدر أهميتها. ما فعله القائمون على مهرجان الجونة هذا العام يمكن أن يكون المعيار الذي تقام على أساسه المهرجانات اللاحقة لردم الفجوة بين الفن والجمهور العربي الذي يرى فيه ترفاً فاسقاً لا يتناسب مع قيم المجتمع.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.