رخصة عربية للجريمة الإسرائيلية
لا تصدّقوا أنّ أحدًا من الأنظمةِ العربيّة جادٌّ في كلامه عن التأييد والمساندة والوقوف إلى جانب لبنان في العدوان الهمجي الذي يتعرّض له. ولا تأخذوا كلامهم على محمل الجد، فالله لا يكلّف نفساً إلا وسعها، وليس وسع هؤلاء سوى الكلام.
كلّهم يؤكّدون وقوفهم بجوار لبنان، وكلّهم يزعمون مساندة اللبنانيين، وكلّهم لا يجيدون سوى ألعاب الورق، ومواقفهم كلّها يأخذونها على الورق فقط.
لا تصدّقوهم، فكلهم مع العدوان الإسرائيلي ضد لبنان. هم مع العدوان حين قرّروا تبادل التجارة مع الكيان الصهيوني، وحين أمدّوه بالغاز وفتحوا له أسواقنا وعقولنا وبيوتنا، هم مع إسرائيل حين صفعتهم بدلاً من المرّة ألفاً، وسكتوا سكوت الموتى، هم معها حين عربدت وتمادت في عربدتها وصمتوا صمت الحملان البليدة.
هم مع إسرائيل حين استقبلوا القتلة في المطارات وأقاموا لهم المآدب وشربوا معهم نخب السلام. هم معها كما كانوا معها في "شرم الشيخ"، حين وصفوا أعمال المقاومة البطولية في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان بالإرهاب. أليسوا هم من قدّموا المبرّرات لإسرائيل لكي تقوم بعملية عناقيد الغضب؟ ألم يضعوا حزب الله وحماس والجهاد على قائمة الإرهاب؟
ما زلتُ أتذكر هتاف اللبنانيين في مذبحة قانا في إبريل/ نيسان 1996 "تسقط شرم الشيخ" و"الموت لأميركا وعملائها". كلُّ اللبنانيين كانوا مدركين أنّ إسرائيل تضربهم وتقتلهم وتحرقهم بشرعيّة قمة شرم الشيخ التي جاءت قراراتها مُفصّلة على مقاس إسرائيل، فليسقط ترزية القمم في كلّ مكان والمجد للمقاومة.
…
ماذا لو علمت أنّ السطور أعلاه نُشرت قبل 24 عاماً، وبالتحديد في أثناء عدوان إسرائيل على لبنان في عام 2000؟ هل تجد فرقًا بين ما كان وما هو كائن الآن، ونحن في الأسبوع الأخير من سبتمبر/ أيلول 2024؟
ليس السؤال عن طبيعة العدو، أو طبيعة المقاومة له، فالعدو هو العدو والمقاومة التي يمثلها حزب الله اللبناني العربي كما هي، السؤال عن البيئة العربيّة الرسميّة التي يعدّها الكيان الصهيوني من أهم أسلحته في الذهاب إلى عملياته العدوانية الإجراميّة في غزّة وفي لبنان.
يذهب المحتل إلى ارتكاب الجرائم مُدججًا بيقينٍ راسخ بأنّ أقصى ما يملكه النظام العربي هو الركض خلفه بعروضِ وساطةٍ أميركية وصفقات وضغوط على المقاومة، لكي يهدّئ من عدوانه، ويخفض حجم توغلاته في الأرض العربيّة واللحم العربي، وعلى الرغم من ذلك يرفضها كلّها، ولا يأبه ويواصل حديثه المتغطرس عن أنّه بصدد إعادة رسم الخرائط الجغرافيّة والسياسيّة في الشرق الأوسط كلّه.
يدرك الاحتلال أنّه محمي بمظلة شرعيّة لكلّ جرائمه، وفرها له النظام العربي منذ ربع قرن بالتمام والكمال، وبالتحديد في شرم الشيخ المصرية يوم 13 مارس/ آذار 1996، لكي تبحث في موضوع وحيد: حماية الاحتلال الإسرائيلي من اشتداد العمليّات الفدائيّة التي تنفذها المقاومة الفلسطينية.
في ذلك اليوم، وقف حسني مبارك يستقبل في مطار المدينة، سيئة السمعة، ووجهه يكتسي بالسعادة، كلًا من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس حكومة الاحتلال الصهيوني شيمون بيريز، والرئيس الروسي بوريس يلتسين، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، والمستشار الألماني هيلموت كول، والرئيس التركي سليمان ديميريل، وملك الأردن حسين، ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، وسكرتير عام الأمم المتحدة بطرس غالي.
كلّ هؤلاء اجتمعوا في مصر لكي يصنّفوا عمليّات المقاومة ضدّ الاحتلال إرهابًا يستوجب محاربته، وبحسب البيان الختامي لما سميّت "قمّة صانعي السلام" في شرم الشيخ، أكدّ المشاركون "إدانتهم الشديدة لكل أعمال الإرهاب، بكل أشكالها النكراء، مهما كانت دوافعها وأيًّا كان مرتكبوها، بما في ذلك الهجمات الإرهابية الأخيرة في إسرائيل، ويعتبرونها دخيلة على القيم، الأخلاقية والروحية، لكل شعوب المنطقة. ويعيدون تأكيد عزمهم على الوقوف، بكل حزم، ضد هذه الأعمال. ويحثون كل الحكومات على الانضمام لهم في هذه الإدانة، وهذه الوقفة إزاء تلك الأعمال الإرهابية".
لم تمرّ أربعة أسابيع على هذه القمّة حتى بدأ رئيس حكومة الاحتلال شيمون بيريز في استعمال الرخصة الممنوحة له، وكان استعماله الأوّل لها في لبنان، مرتكبًا سلسلة من المذابح، كانت أشهرها مذبحة قانا بالجنوب اللبناني.
في ذلك الوقت كان شارع عربي نابض بالحياة، لا يزال، وجماعات ثقافيّة وسياسيّة تمتلك القدرة على رفع صوتها لحشد الجماهير للتظاهر ضدّ هذا العار، فأصدر المثقفون العرب بيانًا قالوا فيه "إن الكتاب والمثقفين العرب، وهم يتابعون بقلق بالغ نتائج قمة الإرهاب في شرم الشيخ وتوجهات تلك القمة، وخطوات تنفيذ ما تضمنه بيانها، الذي جاء كله لصالح إسرائيل الاستعمارية ولتغطية حملاتها التي تشنّها ضد الشعب الفلسطيني، يعلنون وقوفهم إلى جانب المقاومة الوطنية المشروعة في فلسطين وجنوب لبنان، ويؤيدون كفاحها ضد الاحتلال".
أدّقق في معطيات المشهد في اللحظة الراهنة، هل ثمّة فرق بين مخرجات قمّة شرم الشيخ سيئة الذكر وبين حصيلة عملية الوساطة التي تشنّها واشنطن منذ عام تقريبًا، والتي تنهض دبلوماسيًّا بالمهام ذاتها التي تؤديّها القبة الحديدية العسكرية؟