رجلٌ على المعاش لا تسنده القواميس

01 اغسطس 2024

(خوان غريس)

+ الخط -

كانت المدارس دائماً لديه فضاءً للحكي والمسامرة. الآن، في الإجازة، أصبحت المدارس هناك فضاء للعصافير. وقريباً، بعد شهر، يتم قطع الأشجار بخشونة جزّارين وحرقها أياماً، تمهيداً للعام الدراسي. وأياماً، يشكل حريق الأشجار المقطوعة دخاناً يخنقه أياماً في المقهى، ويحجب عن عينيه رؤية فرح العصافير، وخصوصاً قبل الغروب بساعة.

الناس كانت قواميسه التي تمشي على قدمين، مدرّس الدين الكفيف الذي يحتفظ في حقيبته، في ساعات شجنه، بصفّارة من العاج، أخذها هدية من مدرسة المكفوفين بالزيتون، وما زالت هي عكّازه في ساعات حزنه، بعيداً عن نكد البيت واحتياجات العيال.

الشجن للكفيف حماية أخرى له من القسوة كمظلّة في يوم قائظ، وإعادة اعتبار للروح من زحام الأيام وتشابهاتها ومللها. هل لذلك أحبّ بورخيس الكتب وعشق القواميس وأمه، واستبدلهما بالناس؟ كان بورخيس قوياً بما يكفي.

أن تكون مشغولاً بالمدارس، وأنت في هامش مكتبة مدرسية قليلة الكتب. وبعيداً بعد الأرض عن السماء، عن أفلاطون وأرسطو واسبينوزا، تلك الأسماء التي درستها في الجامعة، ولا تسمع هناك سوى صوت الجرس أو تحيّة العلم، وتسرح بآمالك بعيداً عن تلك الكتب الفقيرة، فلا تجد سوى مدرّس الدين الكفيف في الشمس، أو خطاباً يأتيك كرد من الكاتب إسماعيل النقيب، حتى تقع على كتاب "خطى مشيناها" للراحل عباس خضر، فتكاد أن تأكل أوراقه أكلاً فوق السطح، وتأكل معها دروب القاهرة بأحزان أربعينيات قرنها الماضي وثلاثينياته، مع شجن فقراء الكتّاب في مقاهيها ومطاعمها الشاحبة، وخصوصاً بجوار مكتبة دار الخلق القديمة، هل في زوايا الفقر وأركانه ومقاهيه توجد سعاداتٌ لا يتخيّلها ويراها ويلمسها أيضا سوى أصحاب القلم؟

كان بورخيس ثريّاً جداً بمراجع مكتبته التي تملأ مراكب البحر، وثرياً أيضاً بلغاته واشتقاقاتها ومشاكساته مع الكلمات ومنطوقاتها في القواميس اللاتينية القديمة. كان محارباً شرساً مع كتبه وقواميسه ومراجعه التي لا تعد ولا تحصى داخل مكتبته، وكنت أنت الهارب دوماً، بحثاً عن مدرّس الدين الكفيف، كي يسند وقفتك الخجول، حتى تخرج إيناس باسمة لك من مدرسة البنات المجاورة، حاملة بالقرب من صدرها كرّاسات الحصة إلى حجرة المدرّسين. تشرح لمدرّس الدين مشيتها والوردتين اللتين تنطّان من خدّها للشمس، فيمسح مدرّس الدين بداية دمع خفيف من تحت النظّارة، ويداعب الصفّارة العاج بنفسيْن من فمه، فتبتسم الشمس لشجن اثنيْن يتحنثان للغرام.

كنت تنتظر دقّات الجرس بفارغ الصبر، كي تبحث عن فضاء متخيّل لروحك تطير إليه، وخاصة لو كانت إيناس تمشي في الطرقة حاملة الكراريس، أو تلك الوردة الحمراء في نهاية عقوصها الأسود الفاحم، وقصّة من الشعر صغيرة تداري بها عسل العينين والخجل وحَمار الخدّين الذي يقفز رغم الخجل، وأنت تذوب في الشمس وحدك أو بجوارك مدرس الدين الكفيف.

أتذكّر أنني كتبت "خيال في الهند" في أيام عصيبة وشحيحة، وخاصة وأنا أمرّ يومياً بجوار سيرك مدينة 15 مايو، ورجل صعيدي يجلس بجوار ركية نار يغنّي، بصوت طري، السيرة الهلالية، وأنا أحاول أن أزحزح في صخور الهند، كي أصل إليها عبر مركب شراعي، حتى عن طريق زنجبار، أن تذهب إلى الهند بخيالك عبر مركب من ريح، رغم أنك لا تعرف السنسكريتية.

كنت تهرُب من العمل، إلى مقابر الإمام الشافعي، غلبتك فقط مقابر المقطّم، لأنك لست محارباً ولا تحبَ صعود الجبال، وتحب أيضاً الصوفية من دون أن تتحمّل الرداء، كانت الصحافة بالنسبة لك كالعصفور الذي يختطف القمحات من حول أجران القمح ويطير بعيداً.

كنت تمشي مشية المطمئن، رغم كونك تشكّ في أي يقين مع نفسك ليلاً، وتعتبر الكائن الجادّ الوحيد على ظهر الأرض هو العصفور، حتى حصلت بعد صبرٍ طويل على المعاش، وها أنت أمام مدرستك القديمة، ما زلت تتأمّل العصافير وهي في قرب المغارب وكأنها تطير بثقة إلى كونٍ آخر أكثر جمالاً ورقّة من هذا الكون الذي تعيش فيه، وليس في منقارها أي قاموس ولا علم.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري