ذيل الحفتر ورأسه
قبل خمس سنوات، و25 يومًا، ظهر ذيل الحفتر في ليبيا، ثم سرعان ما اختفى، وظن الجميع أن الأمر لا يعدو كونه حالة جنونٍ طارئة، اعترت شخصًا مختلًا، وانتهت سريعًا مثل فقاعة في الهواء، لتعقبها موجاتٌ من السخرية والتندر على هذا المجنون الذي قاد محاولة انقلاب، أحبطت بعد ربع ساعة.
في الرابع عشر من فبراير/ شباط 2014، انطلق انقلاب خليفة حفتر من شاشة قناة "العربية" السعودماراتية، لتعلن القناة أن اللواء المتقاعد الليبي خليفة حفتر أعلن سيطرته على مواقع عسكرية حيوية في البلاد، وتعطيل العمل بالإعلان الدستوري لثورة 17 فبراير 2011، وتجميد عمل الحكومة والبرلمان، قبل أن يعلن عن خريطة طريق جديدة في البلاد.
وفي مساء اليوم نفسه، تم الإعلان عن إحباط ذلك الانقلاب (الساخر)، وتبخّر قائده، إذ نفت الحكومة الليبية وقوع الانقلاب.. وأصدرت الأوامر بالقبض على حفتر، معتبرة انقلابه شيئاً يدعو إلى السخرية.
وفي الصيف نفسه، أعلنت شاشة "العربية"، وغيرها من وسائل الإعلام التي هللت لانقلاب حفتر، فراره واختفاءه. وفي ذلك الوقت كتبت إن ما نشرته وسائل الإعلام من أنباء تفيد فرار اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، قائد ما تسمى عملية "كرامة ليبيا" وانسحابه من بنغازى، تثير الريبة وتستوجب الحذر. وذكرت أن "إلحاح صحف عربية تابعة للدول الراعية للثورات المضادة على نشر أخبار شكلها حلو عن فرار حفتر من ليبيا هو أمر يثير الريبة، ويستوجب الحذر، وعلى ثوار ليبيا ألا يلتفتوا لهذه التسريبات المخدرة، ويواصلوا طريقهم للقضاء على رأس الانقلاب، وعدم الاكتفاء بالتهليل لاختفاء ذيله".
كان واضحًا منذ اللحظة الأولى أننا بصدد زراعة سيسي جديد في التربة الليبية، في عملية مدروسة ينفذها التنظيم الدولي لصناعة الثورات المضادة، من أجل إحراق الربيع في أي أرض عربية. وعلى ذلك، كان مقصودًا إظهار المحاولة الحفترية الأولى على هذا القدر من الهزل والهزال، والهدف اختبار حجم ردود أفعال الثورة الليبية، استعدادًا لمحاولةٍ أكبر وأكثر جدية.
بعد ذلك، تبين أن خليفة حفتر هو المشروع المصري الإماراتي السعودي الشامل، ولم تعد القاهرة تخفي تدخلها العسكري، جوًا وبرًا، للتمكين لانقلاب ليبيا، تنفيذًا لرغبة رعاة الحرب على الربيع العربي، وابتزازًا للعالم، بحجة الحرب على الإرهاب، وفي غفلةٍ من الثوار نجحت المؤامرة، وتحول حفتر من مغامر مجنون إلى واقع كئيب، مفروضٍ بقوة السلاح المصري والمال الإماراتي السعودي والرضا الأميركي الصهيوني.
ومع الوقت، بات خليفة حفتر جزءا من الحالة الليبيبة، بعد أن منحته صفاقة العالم ونفاقه شرعية واقعية، جعلته يملي شروطه على الحكومة والثورة الليبيتين، حتى بلغت به الوقاحة أنه في يناير/ كانون ثاني 2017 أعلن أنه لن يمنح رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فائز السراج، شرف لقائه بالجزائر، إلا بشروط ذكرها في حوار مع صحيفة كورييري ديلا سيرا الإيطالية بقوله: "بدأت محادثات مع السراج منذ عامين ونصف العام لكن من دون نتائج ملموسة. لكن يمكنه الانضمام لحربنا إذا أراد ذلك، فلا أملك مشكلة شخصية معه، لكن المشكلة تكمن في المحيطين به".
في تلك الفترة، كان العالم يفتح ذراعيه لخليفة حفتر، فيتم استقباله في موسكو والقاهرة وروما والخليج الكاره للربيع العربي، حاملًا بضاعة عبد الفتاح السيسي مرددًا طوال الوقت"الأولوية حاليًا هي لمحاربة الإرهاب والإرهابيين، بعدها يمكننا التحدث عن الديمقراطية والسياسة".
الآن، وبعد خمس سنوات من زراعة حفتر، ينتقل التحالف الإقليمي والدولي إلى مرحلة جديدة، لاستئصال كل الأطراف الأخرى في المعادلة الليبية، لتصبح دولة حفترية كاملة الملامح، استنساخًا للنموذج السيسي في مصر، الأمر الذي يحتّم على الليبيين أن يستعيدوا ذاكرة الثورة، وينظروا إلى جوهر المسألة: إما ليبيا.. أو حفتر.
والشاهد أن هدف صناع العدوان الثلاثي الجديد (السيسي ومحمد بن زايد ومحمد بن سلمان) ليس زيادة حصة حفتر في خريطة السياسة الليبية، أو تدعيم موقفه السياسي والعسكري على الأرض، بل هي معركة إخضاع ليبيا كلها، بالتزامن مع بشائر ربيع جزائري، وآخر سوداني، ينعشان الأمل في عودة الحياة إلى ربيع العرب الديمقراطي.
من هنا، ومرة أخرى، لا ينبغي الإفراط في الشعور بالارتياح والاطمئنان للأنباء المتواترة عن هزيمة العدوان الثلاثي على طرابلس، وكأن كل شئ قد حسم، إذ تبدأ الهزيمة أحيانًا من الإحساس المبالغ فيه بالانتصار، فالمطلوب هذه المرة رأس الأفعى، وعدم الاكتفاء بذيلها.