حَراك طلّابي مفتوح رغم المحظور

16 سبتمبر 2024

تظاهرة خارج كلية الاقتصاد في لندن بعد إزالة معسكر احتجاجي بالحرم الجامعي (7/2024/Getty 17)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

مع عودة العام الدراسي، عاد طلاب الجامعات ليشكّلوا واجهةَ الحَراك ضدّ الإبادة المتواصلة في غزّة، وضدّ دور جامعات في دعم تمويل الحرب ونظام الفصل العنصري وراءها. يعود الطلاب إلى ساحة المواجهة وحيدين، متسلّحين بدعم نسبي من النقابات، ومن شريحة محدودة من الجسم التعليمي. يدور الحَراك الطلابي في أجواء مكارثية حيث المعركة، حول تسمية ما يحصل في غزّة والأراضي الفلسطينية بالإبادة وإدانة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، تشهد فصولاً من الربح والخسارة، في ظلّ تصاعد موجة ملاحقة الأصوات المُؤثّرة بتهمة معاداة الساميّة.
مكاسب قليلة (لكنّها مهمّة) حقّقها الحَراك الطلابي، وقد تكون استقالة نعمت شفيق من رئاسة جامعة كولومبيا أحد المكاسب المعنوية فحسب. كذلك فإن قرار الادّعاء العام البريطاني إسقاط التهم عن الأكاديمية المصرية أميرة عبد الحميد، مكسب آخر مهمّ في بريطانيا. وكانت جامعة بورتسموث قد أحالت عبد الحميد على شرطة مكافحة الإرهاب، لتغريدات على "إكس" اعتُبرَت مُضرَّةً بسمعة الجامعة، وأنّها مناصرة لحركة حماس التي تصنّف منظمةً إرهابيةً. بعد تعليقها عن العمل، تعرّض مكان إقامتها لمداهمةٍ من عناصر فرقة مكافحة الإرهاب، وصُودِرَت مقتنياتٌ لها، بما فيها الكومبيوتر الخاصّ، ومدوّنات شخصيّة. انطلقت الحملة ضدّ أميرة بعد مقالة نشرها موقع جويش كرونيكال اتهمها بمعاداة الساميّة. شمل المقال اتّهامات مماثلة بمعاداة الساميّة لأكاديميَّين آخرَيْن، محسن العطّار وجيلبر الأشقر، في إطار حملة متواصلة يشنّها الموقع على أصوات مُؤثّرة في الإعلام والأكاديميا.

يتواصل الحَراك الطلّابي في كلية لندن للعلوم السياسية والاقتصادية الطامح إلى تعديل سياسة الجامعة في استثماراتها

يعتبر إسقاط التهم عن أميرة عبد الحميد انتصاراً لحرّية التعبير في وجه محاولات متواصلة للخلط بين انتقاد إسرائيل ومعاداة الساميّة. استخدام تهمة معاداة السامية ونصرة "مجموعة محظورة"، في إطار قانون مكافحة الإرهاب، أطلق ملاحقات قضائية في حقّ مجموعة من الناشطين، بمن في ذلك أساتذة جامعيون وطلّاب، منهم على سبيل المثال الطالبة في جامعة ساسيكس، حنين البرغوثي، التي اتّهمت بالتعبير عن شعارات مناهضة للساميّة في إحدى التظاهرات المُؤيِّدة لفلسطين في مدينة برايتون. من البديهي القول إنّ استخدام قانون مكافحة الإرهاب في حقّ ناشطين وطلّاب وأكاديميين لتعبيرات تصنّف داعمةً لـ"حماس" بثّ الرعب لدى شريحة واسعة من المشاركين في الحراك الشعبي ضدّ الإبادة في غزّة، إلّا أنّ الطلاب والأكاديميين الشبّان هم الأكثر هشاشةً في وجه هذه الحملة.
في جامعة كينكز كوليج في لندن، توصّل الحراك الطلابي (الأكثر حيويةً بين الجامعات البريطانية) إلى إرغام الإدارة على مراجعة سياستها في الاستثمارات، بما في ذلك وقف الاستثمار في الشركات التي تتركّز نشاطاتها في إنتاج الأسلحة أو توزيعها، التي تطرح نوعيتها أو طريقة استخدامها أسئلةً أخلاقيةً. في كلية لندن للعلوم السياسية والاقتصادية لا يزال الحراك الطلابي الطامح إلى تعديل سياسة الجامعة في استثماراتها متواصلاً. كانت الجمعية الطلابية من أجل فلسطين قد أصدرت تقريراً تحت عنوان "التواطؤ في الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني وتجارة الأسلحة والانهيار المناخي"، تناول استثمارات الجامعة في مجالات تطرح إشكالياتٍ أخلاقيةً منها دعم الجيش الإسرائيلي والمستوطنات الإسرائيلية، واستخراج أو توزيع الوقود الأحفوري، وتمويل الشركات في هذا المجال، وإنتاج أو توزيع الأسلحة بما في ذلك النووية. وتبلغ الاستثمارات الاجمالية للجامعة نحو 485 مليون جنيه إسترليني، بحسب التقرير، منها 89 مليوناً استُثمِرت في 137 شركةً متورّطةً في الحرب في غزّة، والوقود الأحفوري، وصناعة الأسلحة أو الإنتاج النووي. رغم حصول الجامعة على أمر قضائي بإزالة المُخيّم الذي أقامه الناشطون في أحد مباني الجامعة، لا يزال الحَراك متواصلاً. وقرر عدد من الطلّاب المبيت في المُخيّم إلى أن تستجيب إدارة الجامعة لمطالبهم بشأن تحويل الاستثمارات من الشركات المذكورة، ودمقرطة عملية اتّخاذ القرار في شأن استثمارات الجامعة. لم يُتّخذ أيُّ إجراء تأديبي عقابي في حقّ أيٍّ من الطلّاب. رغم أنّ الحَراك الطلّابي محدود في بريطانيا مقارنةً بالولايات المتّحدة، إلّا أنّ رقعته كانت قد امتدّت في العام الماضي إلى عدد كبير من الجامعات، منها مانشستر، ونيوكاسل، وليدز، وغولدسميث لندن، وبريستول، وشافيلد، ووريك، وغيرها من الجامعات، ويُرجَّح أن يستعيد حيويته مع انطلاق العام الدراسي الجديد.

المعركة بشأن تسمية ما يجري في غزّة بالإبادة، ومسؤولية الوسط الجامعي في الاعتراف به، يقودها الطلّاب رغم أنّهم الحلقة الأضعف

المعركة بشأن تسمية ما يجري في غزّة بالإبادة، ومسؤولية الوسط الجامعي في الاعتراف به، بما في ذلك مسؤولية الجامعات والمؤسّسات التعليمية في الاستثمار في نشاطات تطرح أسئلة أخلاقية، يقودها الطلاب في الموقع الأوّل، رغم أنّهم الحلقة الأضعف، يواجهون إجراءات غيرَ مسبوقة، في رأسها عنف الشرطة، التي باتت جزءاً من الحرم الجامعي في الجامعات الأميركية، أو الإجراءات التأديبية التي يتحمّلون تبعاتها وانعكاساتها على مستقبلهم من دون كثير من دعم. التحدّي الأكبر قرار جامعة نيويورك اعتبار مناهضة الصهيونية شكلاً من أشكال التمييز، التي تُعتَبر جريمةً مسلكيةً تستوجب إجراءاتٍ عقابية. في سابقة من نوعها، أدخلت الجامعة تعديلاً على سياساتها، التي تُحدّد ما يسمَّى المجموعات المحميّة من أشكال التمييز، لتضيف إليها "الصهيونية"، ما يعني أنّ أيَّ تعبير ناقد لإسرائيل أو للإسرائيليين يُعتَبر مُهيناً لهذه الفئة، ويفتح الباب أمام ملاحقة المسؤولين عن هذه التعبيرات. بذلك فتحت الجامعة الباب أمام تقييدٍ إضافيٍّ لحرّية التعبير في انتقاد السياسات والجرائم الإسرائيلية، وتعريض الطلّاب للمزيد من الملاحقة.
فيما يستعدّ طلاب العالم للعودة إلى الحرم الجامعي، لن يعود طلّاب غزّة (من بقي منهم في قيد الحياة) إلى أيّ جامعة أو مدرسة. تقدّر أرقامُ الأمم المتّحدة أنّ الحرب ضدّ غزّة أدّت إلى تدمير ما يقارب 80% من المدارس في غزّة، منذ 7 أكتوبر (2023)، ما يعني الانتقال من تدمير ممنهج سابق إلى تدمير كامل للقدرات التربوية. جامعات القطاع كلّها (12 جامعة) تعرّضت للقصف أو دمّرت بالكامل. فرص التعليم الوحيدة ستكون مبادرات بعض المدرّسين في المباني شبه المُدمَّرة لاستعادة بعضٍ من معالم حياة طبيعية. بحسب تقرير لمجموعة التعليم العالمية التي تنشط مع منظّمات الأمم المتّحدة، فإنّ 93% من مباني مدارس غزّة (564 مدرسة) تعرّضت لدرجة ما من التدمير، ما يعني أنّ حوالى 650 ألف طالب في غزّة لن ينضمّوا إلى مقاعد الدراسة للعام الثاني على التوالي، بانتظار فرج يبدو أنّه لن يأتي قريباً.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.