حين يسقط كل شيء أمام المال

13 يناير 2024

(وجيه نحلة)

+ الخط -

لو أن الكلام المتداول حاليا في الميديا العالمية والعربية حقيقي، والأسماء المتورّطة بفضيحة ما تسمى جزيرة المتعة، الخاصة بالملياردير الأميركي جيفري إبستين، المنتحر في السجن قبل أعوام، هي متورّطة فعلا في جرائم الاعتداء على القاصرات ممن كان إبستين يحتفظ بهن في جزيرته المخيفة، فهذا يعني أن النوع الذي ننتمي له هو الأكثر فسادا وشرّا وقرفا على هذا الكوكب.

لا يتعلّق الأمر بالطرق المُقرفة أو الشريرة للمتعة الحسّية أو الجنسية التي تتيحها الجزيرة لضيوفها، فتاريخ البشرية حافلٌ بسرديات الحصول على المتعة عبر الطرق الأكثر قذارة أو عنفا، سواء أكان طالبو المتعة جماعاتٍ أو كانوا أفرادا؛ وهو ما يفسّر حالات الهيجان وصيحات السعادة مثلا لدى جمهور حلبات المصارعة الحرّة، أكثر أنواع الرياضات عنفا، (لا أعرف كيف تنسب المصارعة الحرّة للرياضة). ويقال إن كثرا يذهبون للمشاركة في التشجيع بقصد الاستمناء بين الجموع. قيل هذا أيضا عن الذين كانوا يشاهدون مصارعة الأسود للعبيد المسجونين في سجون الرومان.

أما في ما يخصّ الأفراد، فالنماذج أكثر بكثير من أن تُذكر، يمكننا هنا فقط الحديث عن سردياتٍ عن الاغتصاب والاعتداءات الجنسية للسجانين ورجال الدين، أو الاعتداءات الجنسية للآباء والأخوة. وكلها سرديات توضح الحقّ الذي يمنحه أصحاب السلطة لأنفسهم بالاعتداء الجنسي على الأطفال والقصّر، والمقصود هنا بالسلطة ليس السياسية فقط، بل كل أنواع السلطة، فالتفوّق الديني سلطة، والتفوّق الطبقي سلطة، والتفوّق العرقي سلطة، والتفوّق الجيلي سلطة، والتسلسل العائلي سلطة. كلها سلطاتٌ وتراتبياتٌ يمنح أصحابها الحقّ لأنفسهم بارتكاب أشنع الأفعال قصد الحصول على لحظاتٍ من المتعة من دون أي إحساسٍ بوخز الضمير، أو التفكير بشناعة ما يفعلون.

تأتي فظاعة التسريبات الخاصة بجزيرة المتعة من أن بين الأسماء المتداولة شخصيات فنية وفكرية وعلمية ممن يُفترض بهم أن يكونوا قدوة للمجتمعات والأكثر حرصا على القيم الإنسانية والخير والعدل والجمال، فالفن أو العلم أو الفكر هي بحد ذاتها قيم سامية يجب أن يتمتّع أصحابها بالسمو نفسه؛ وهو ما لا ينطبق على رجال الأعمال والاقتصاد والسياسة، هذه كلها تنحاز للقباحة، فلا يستغرب أن يكون بين ضيوف الجزيرة رؤساء وزعماء وأمراء وأثرياء، لكن يثير الحيرة والاستغراب وجود فنانين أو إعلاميين أو مفكّرين، حتى لو كان هؤلاء مجرّد زوار عاديين للجزيرة، ذلك أن أية علاقة من أي نوع مع شخص، مثل جيفري إبستين، بتاريخه المعروف بالاعتداء واغتصاب القاصرات تضع صاحبها في موضع الشبهات، فكيف الحال مع اعتباره صديقا أو حتى قبول دعوة ترفيهية منه أو قبول تمويل منه لمؤتمر ما، كما ظهر في التسريبات.

علي أن ما أثار استغرابي أكثر تداول أسماء نساء بين زوّار الجزيرة، مثل أوبرا وينفري المعروفة بأنها "فاعلة خير" خصوصا بما يتعلق بالأطفال، أو كاميرون دياز أو كيت بلانشيت، والاثنتان من أهم ممثلات "هوليوود" وأكثرهن موهبة، وقدّمتا أدوارا إنسانية عميقة ومؤثرة. ما الذي فعلته هاته النساء في الجزيرة؟ هل كن يشاهدن الاعتداءات التي يقوم بها زملاؤهن، ويصفقن ابتهاجا لدى صيحات الألم أو الخوف التي تًطلقها القاصرات المُعتدى عليهن؟ حقيقة لا يمكن فهم شيءٍ كهذا منهن، ولا يمكن مقارنتهن حتى بهيلاري كلينتون التي قيل إنها كانت من الزوّار الدائمين للجزيرة، فهي سياسية ومرشّحة للرئاسة وزوجة رئيس، وارتباطات هؤلاء مع الأثرياء وثيقة الصلة ومتشابكة، يحتاج الاثنان بعضهم بعضا في عوالم الديمقراطية القائمة على التحالفات، أو بالأصحّ على العلائق المافياوية في السلطة. وهو ما يفترض بالفنانين الوقوف ضدّه، فما بالكم بالنساء اللواتي يتعرّضن دائما لتنمّر واستعلاء وتمييز ذكوري في كل مجالات العمل والحياة.

توضح التسريبات الأولى لزوّار جزيرة المتعة أن القيم والمثل العليا في طريقها نحو الزوال نهائيا لصالح قيمة رأس المال بكل فساده، ذلك أن الشرائح المختلفة من زوّار جزيرة الجرائم تلك تظهر أن ما يحكم هذا العالم هو المال فقط، ولا شيء غيره. الثروة هي المعيار على ما يبدو التي تسقط تحت أقدامها كل المعايير والأخلاق. ولا فرق هنا بين جنس أو مهنة أو جنسية أو دين. فالتسريبات تعدنا بمزيد ومزيد من الأسماء قريبا، للعرب بينها نصيب ليس بالقليل.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.