حماس رومانسي ثم إحباط وأخيرًا انسحاب
اللافت في الدعوات المتصاعدة إلى مقاطعة ما تسمّى انتخاباتٍ رئاسيةً قادمة في مصر أنّها تصدُر عن شخصياتٍ عامة، بينها وبين المرشّح الافتراضي، أحمد طنطاوي، كثير من الودّ والاحترام، بل منها من كان مشجّعًا له على خوض التجربة.
في الضفة الأخرى من بحيرة السياسة الآسنة، تتزايد الإشارات الصادرة مما أسميتها قبل سنوات "أحزاب صديقة للبيئة"، والتي تضفي على المشهد العام ابتذالًا وإسفافًا يجعل المسألة كلّها أقرب إلى ألعاب السيرك الذي يتنافس العارضون (المعارضون) فيه على تقديم فقرات التأييد والمبايعة، بل وإعلان الحرب على كلّ من يتصوّر إمكانية المنافسة والتغيير.
يتزامن ذلك مع مزاج دولي عام، لم يعُد يعبأ باحترام قواعد اللعبة الديمقراطية أو إعمالها، في ظلّ تساقط قطع الدومينو في القارّة الأفريقية، انقلابًا تلو الآخر، حيث لا تفضّل الدول الكبرى التي طالما بشّرت بالديمقراطية طريقًا وحيدًا للوصول إلى السلطة، أن تطلق عليها انقلابات، مكتفية بالإعراب عن أمنياتها بالحفاظ على أمن البلاد واستقرارها واستئناف العملية السياسية.
في محصّلة المشهد، ثمّة فتور في الداخل والخارج بشأن إجراء انتخابات، حتى ولو كانت شكلية وصورية، تكرارًا لما جرى في سابقتها، حيث يُستعاد الاشتباك بالمفردات والعبارات والمبرّرات والحجج ذاتها، وكأنّ أحدًا لم يغادر العام 2018، سواء في السلطة أو في المعارضة.
يشتعل الاشتباك نفسه حول ضمانات النزاهة وعدالة العملية الانتخابية وجدّيتها، في تصاعد ملحوظ تتزايد معه الإحباطات من تعاقب المشاهد العبثية التي يؤدّيها بإتقان شديد مرشّحون مفترضون من رؤساء الأحزاب الذين ينطلقون في الدعاية من إعلان الولاء الكامل لشخص عبد الفتاح السيسي وسياساته، بل والتنافس في إظهار ما يعتبرونها مسيرةً حافلةً من الإنجازات، ينبغي لها أن تستمر.
تضع هذه الأجواء الذين يراهنون على إمكانية إحداث معركة انتخابية حقيقية من خلال الاحتشاد لحماية اللعبة في حرجٍ شديد، حتى أنّ بعض الأصوات المحترمة بدأت في العزوف عن هذا العبث السياسي كلّه، والتحوّل إلى الدعوة إلى المقاطعة الكاملة، الأمر الذي يطرح سؤال هذا المقال: متى يعلن أحمد طنطاوي خروجه من المشهد، بوصفه الوحيد من بين الأسماء المطروحة الذي يقدّم خطابًا سياسيًا حقيقيًا وجادًا، حتى وإن كان محلّقًا في الرومانسية السياسية؟
موقف طنطاوي 2023 لا يختلف كثيرًا عن حالة خالد علي 2018، حين بدأ متحمّسًا للغاية رافعًا شعاراتٍ تلامس مشاعر جمهور التغيير في مصر، ومتحدّثًا عن جبهة وطنية عريضة تدعمه وتراهن عليه لصناعة التغيير، ثم أخذ، بالتدريج، في الهبوط بسقف الأحلام والطموحات، حتى انتهى به المطاف إلى إعلان خروجه من اللعبة كلّها، مردّدًا الكلام ذاته عن غياب النزاهة والشفافية والحياد، حيث قال في ظهوره الأول، مرشّحاً مفترضاً ضد عبد الفتاح السيسي: "لن نقبل بأن نشارك في مسرحيةٍ هزلية، فإمّا مشاركة جماعية في انتخابات حرّة بضمانات تامة، أو مقاطعة جماعية، ونسيب السيسي يدخلها لوحده". وفيما بعد، بدا خالد علي مصرّاً على قطع الشوط إلى آخره، وقد لفّ حول خصره حزاماً من الضمانات، تحدّث عنها لمحطة سي إن إن، ثم أعلنها في مؤتمر جماهيري، بوصفها أموراً محدّدة لقرار الاستمرار في اللعبة، ثم أخيرًا قرّر فجأة إعلان الانسحاب تمامًا.
كتبتُ وقتها أن فكرة الانتخابات تحوّلت إلى مصيدة أنيقة، تتألّق أضواؤها، فتهرع إليها الفريسة تلو الأخرى، بينما القنّاصة الماهرون يعتلون سطح الكرنفال، مطلقين النار على كلّ من يقترب، ومكبّرات الصوت تنادي: هلمّوا إلى العرس الديمقراطي ... هلموا إلى الجحيم.
وعلى ذلك، لا تعد المطالبة بالنأي بالنفس عن جحيم الانتخابات العبثية نوعاً من الترف السياسي، أو إفراطاً في التشاؤم، أو جموداً في رفض كلّ فرص الحلحلة، وفتح المجال العام، بل الأجدر بمن يريد معارضةً حقيقية فعلاً، ألا يسمح لأحد باستخدامه غطاءً لديمقراطية مزيّفة، يساهم في إضفاء معقولية على جحيم مستعر بالجنون.