حكومة تصريف الأعمال في دولة حزب الله
في خضمّ مخاض متواصل ومُثقل بصنوف الأزمات والمعاناة التي ضربت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، تمضي الأزمات اللبنانية على تفاقمها اليومي عصيةً على الحلول، مستنسخة في كل يوم جديداً يزيد من بؤس المواطنين، على الرغم من كل اللقاءات والمشاورات الداخلية والوساطات الخارجية.
في هذا الوضع، لا تزال حكومة نجيب ميقاتي بعيدة عن الاجتماع لتستمر في ممارسة دورها حكومة تصريف أعمال مقنّعة، حتى قبل استقالتها، وباتت مجرد هيكل حكومي يحاكي حكومة حسّان دياب المستقيلة، بعد تفجّرها من الداخل نتيجة خلاف مكوناتها على التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، بعد ربط الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل، إعادة تفعيلها باستبعاد المحقق العدلي، طارق بيطار، وغيابها التام عن معالجة ذيول "أحداث الطيونة"، بعد امتناع سمير جعجع عن المثول أمام المحقق العسكري، وإخفاقها في وضع برنامج واضح للحوار مع صندوق النقد الدولي، والأزمة التي سبّبتها تصريحاتٌ لوزير الإعلام المستقيل جورج قرداحي مع دول الخليج.
باتت الحكومة اللبنانية مجرد هيكل حكومي يحاكي حكومة حسّان دياب المستقيلة، بعد تفجّرها من الداخل نتيجة خلاف مكوناتها على التحقيق في انفجار مرفأ بيروت
فالاجتماعات الوزارية الثلاثة التي عقدتها حكومة ميقاتي قبل تعطيلها حوالي شهرين كانت كفيلة بتكوين تصوّر واضح أنّ هذه الحكومة ليست قادرة على تحمّل أعباء المرحلة الصعبة التي يمرّ بها لبنان، فمن جهةٍ فشلت في تقديم نفسها، داخلياً وخارجياً، بأنها حكومة إنقاذ (معاً للإنقاذ) قادرة على إخراج لبنان من الأزمات التي تعصف بها، بل على العكس لعبت هذه الحكومة دوراً كبيراً في زيادة عزلة لبنان خارجياً، بعدما نجح حزب الله، الذي تحوّل إلى دولة داخل الدولة، وبات يتحكّم بالسلطة عبر ممثليه في المجلس النيابي والحكومة، في فرض أجندته على رئيسها، وهو ما أثبتته الأحداث اللاحقة لتشكيل حكومة ميقاتي، وأهمها تصريحات بعض وزرائها، وخصوصاً قرداحي، الذي وصف الحرب السعودية ضد الحوثيين باليمن بـ"العبثية"، والتسريبات الصوتية لوزير الخارجية عبد الله بوحبيب التي استهدفت السعودية أيضاً، وتهديدات قادة حزب الله بقبع القاضي طارق البيطار، وتعطيل عمل الحكومة إلى حين استبعاده عن التحقيق في انفجار المرفأ.
يؤكد تعطيل عمل الحكومة ما يُقارب الشهرين، في ظل أوضاع معيشية واقتصادية وصحية سيئة، على مدى السطوة الكبيرة التي يتمتع بها حزب الله وقدرته على التوظيف السياسي لأي ملف أو قضية داخلية في لبنان، ومحاولة اجتراح الحلول لها وفق توافقات وتشابكات محدّدة، خدمةً لمصالحه وأجندته، حتى وإن كانت على حساب لبنان وشعبه، من خلال عدّة ممارسات، على غرار تجارة المخدّرات، والتهريب، وإضعاف مؤسسات الدولة، وبناء مدارسه ومستشفياته ومنظماته الخيرية الخاصة، وبناء ترسانة عسكرية ومليشيا تشارك في حروب المنطقة، ويعكس أيضاً إقراراً من الأطراف السياسية اللبنانية بأنّها لم تعد تملك خياراتٍ للتعامل مع الوضع، وبأنها مجرّد رهينة لسطوة حزب الله، الذي دائماً ما يستحضر أمينه العام معالم القوة السياسية والمليشياوية في الحزب، والمتمثلة بجمهوره ومليشياته العسكرية التي تبلغ مائة ألف مقاتل.
طبعاً، طول فترة التعطيل، وغياب أي أفقٍ لحل الأزمات المتراكمة، في وقتٍ يستمر فيه تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بعد ارتفاع سعر الدولار ووصول سقفه إلى مستويات عالية وخطيرة، وارتفاع نسبة الفقر إلى 75%، كل ذلك جعل الشارع اللبناني غير معوّل على أي دور لحكومة ميقاتي، بفعل الأجندات المتضاربة لمكوناتها، وجعله يرى فيها جزءاً أساسياً من المشكلة التي أوصلت لبنان إلى عزلةٍ حقيقيةٍ عن أشقائه العرب، ودفع أيضاً أكثر من جهة سياسية فاعلة لترجيح بقاء الأزمة السياسية اللبنانية مفتوحة لفتراتٍ قد تطول.
سلطة تنفيذية مسلوبة الصلاحيات، ورئيس جمهورية يعيش حالة إنكار للوضع الكارثي
وبالتالي، وفي ظل هذا الإطار تُجْمع أكثر من جهة سياسية فاعلة على أنّ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تحوّلت إلى مجرّد شاهدٍ على ما يجري، كأنّها حكومة بدل عن ضائع، مهمتها فقط تصريف الأعمال، بناءً على توجيهات حزب الله والمحور المساند له وإملاءاتهما، من دون أن تكون لها أي إرادة حقيقية في الاختيار والتنفيذ، عاجزة، في الوقت نفسه، عن تقديم أي شيء للبنانيين، أو لصندوق النقد الدولي والغرب الذي أجاز تشكيلها لمجرّد تقطيع الوقت، وصولاً إلى الانتخابات البرلمانية المقرّرة في العام المقبل، إذا لم تسجّل أي تطوّرات قد تدفع ميقاتي إلى الاستقالة، على الرغم من استبعاد هذا الخيار بفعل الخط الأحمر الدولي الذي يمنع هذه الاستقالة.
في المحصلة، يمكن القول إنّ الأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان، وكان جديدها أزمة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وما نتج عنها من حالة الاستعصاء في ما يخص تعطيل عمل الحكومة، تكشف عن مكامن خلل بنيوية وخطيرة في النظام السياسي الطائفي في لبنان، والذي سمح لإيران وقادتها من الحرس الثوري بالاستثمار في الطائفة الشيعية اللبنانية وعسكرتها وتنظيمها في إطار عقائدي مسلّح، يتخطّى أصلاً مفهوم الدولة اللبنانية، وحوّل النظام التعدّدي اللبناني إلى "نظام توافقي" يبسط فيها الحزب هذا المقدار من النفوذ المباشر والهيمنة على سلطات الدولة اللبنانية ومؤسساتها في ظل سلطة تنفيذية مسلوبة الصلاحيات، ورئيس جمهورية يعيش حالة إنكار للوضع الكارثي، ومليشيا عديدها يفوق عديد الجيش اللبناني ومعارضة مشتتة غير قادرة على المواجهة، ومفتقرة لدور قيادي حقيقي قادر على تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية.