حاشية على سقوط مرتضى منصور
للتاريخ أبواب متعدّدة تُفضي إلى درجات متنوّعة، تسمح بدخول أضداد ونقائض متناقضة كلّ التناقض، فالتاريخ لا يُخلّد الأبطال والعظماء وحسب، لضرب الأمثال العليا، وإنما يخلّد الأقزام والسفهاء أيضاً ضارباً الأمثال الدنيا، حتى يُدرك من يستقرئ أحداث التاريخ الفارق بين الثرى والثريّا. كما يحفل التاريخ بمقارنات تحمل دلالات كاشفة عن مستوى حقبة بأخرى، وما كانت عليه النُخبة في فترة ما من جودة التكوين القيمي، والمعرفي، وآليات الصعود الاجتماعي ودرجة الوعي المجتمعي لدى طبقات المجتمع في الفترة نفسها، وليس بالضرورة أن تكون الحقبة الأولى ناصعة البياض، والثانية حالكة السواد، فالتسقيط والتسويد ليسا من الموضوعية في شيء، ولكن الأمر في كلّ الأحوال يستحقّ وقفة للتأمّل.
أخيراً، خسر رئيس نادي الزمالك، مرتضى منصور، مقعده في مجلس الشعب (البرلمان) المصري، بعد إخفاقه في دخول جولة الإعادة في دائرة ميت غمر، ولحق بنجله الذي خسر مقعده البرلماني في دائرة الدقّي، وكانا قد تمكّنا من دخول البرلمان السابق في انتخابات 2015 ليجمع البرلمان نفسه بين الأب وابنه، في سابقة تاريخية لم تحدث في تاريخ مصر الحديث سوى مرّتيْن، الفاصل بينهما نحو 65 عاماً. الأولى في برلمان 1950 في الحقبة الليبرالية الزاهية الراقية، والتي أهالت الآلة الإعلامية الناصرية التراب عليها، وصوّرتها أنها كانت سواداً دامساً حالكاً لا بياض فيه، وتفنّنت في مسح محاسنها وطمس رموزها وحجب أسمائهم، حتى صار أعلام تلك الحقبة من المجاهيل، وصوّرت السينما طبقة "الباشوات" حِفنة من الأشرار المُتعجرفين غلاظ القلوب، الذين لا همّ لهم سوى التنكيل بالفلّاحين والفقراء (!).
تعرّضت التربة المجتمعية المصرية لعملية تجريف قاسية، اقتلعت الأشجار وأبقت على الحشائش
جمع برلمان 1950 (تمخّض عن انتخابات يناير/ كانون الثاني 1950 التي أتت بحكومة حزب الوفد الأخيرة بزعامة مصطفى النحّاس باشا) بين الأب عبد السلام فهمي جمعة باشا وابنه عزيز فهمي بيك، وهما من رموز الليبرالية الوطنية (تختلف عن الليبرالية الأوتوقراطية)، وبكلّ أسف كلاهما شبه مجهول، لدى الخواصّ فضلاً عن العوامّ.
تولّى عبد السلام فهمي وزارة التجارة والصناعة في وزارة النحّاس الثالثة (مايو/ أيار 1936)، وكذلك في وزارته الرابعة (أغسطس/ آب 1937)، ثمّ تولّى وزارة الزراعة في حكومة النحّاس 1942، كما تولّى منصب سكرتير عام "الوفد" في 1947، لكنه اعتذر عنه نظراً لإقامته الدائمة في مدينة طنطا. وعقب الانتخابات البرلمانية 1950 انتُخِبَ للمرّة الثانية رئيساً لمجلس النوّاب، وكانت المرّة الأولى في برلمان 1942. أمّا عزيز فهمي (1909 – 1952) فقد خصّص شيخ المؤرِّخين المصريين عبد الرحمن الرافعي فصلاً عنه، في كتابه "شعراء الوطنيّة في مصر"، عنونه "عزيز فهمي.. شاعر الحريّة والشباب"، وفيه: ".. من أعلام الحريّة والأدب، وأبطال الوطنيّة والجهاد، وُلدَ 1909 بطنطا، وهو نجل عبد السلام فهمي رئيس مجلس النوّاب السابق، ومن المجاهدين في الحركة الوطنيّة،.. شغل منصب وكيل نيابة وقتاً قصيراً، ثمّ ضاق صدراً بالقيود الحكوميّة، فاستقال مؤثِراً العمل الحرّ والجهاد الحرّ، واشتغل بالمحاماة والصحافة، ووقف قلمه ولسانه وقلبه وجنانه على الجهاد في سبيل الحرّية، ومكافحة الاستعمار، والطغيان، والفساد... دخل البرلمان سنة 1950 نائباً عن دائرة الجماليّة بالقاهرة، فكانت صفحته في دار النيابة أقوى صفحات حياته التي قضاها في الكفاح الوطني، وعلى أنه انتُخِبَ مرشّحاً عن الوفد فإنه لم يتقيّد بسياسة الحكومة الوفدية وعارضها فيما يستحقّ المعارضة،.. سافر إلى منطقة القنال عام 1951 وساهم في حركة المقاومة ضدّ القوّات البريطانيّة، واستُهدِف للقتل غير مرّة، فكان ذلك منه غاية البذل والتضحية".
مرتضى منصور معروف ببذاءته الفاحشة، ولغة خطابه الهابطة المُتدنية، ما جعله أشهر الشتّامين في تاريخ مصر الحديث
وبعد نحو سبعة عقود، تعرّضت فيها التربة المجتمعية المصرية لعملية تجريف قاسية، اقتلعت الأشجار وأبقت على الحشائش، تكرّرت السابقة، وجمع برلمان 2015 بين مرتضى منصور وابنه، في لحظةٍ سيقف التاريخ أمامها مبهوتاً مشدوهاً، بعدما يعقد مقارنة مؤلِمة بين السابقتيْن.
اللافت أن مرتضى منصور، المعروف ببذاءته الفاحشة ولغة خطابه الهابطة المُتدنية، التي جعلته أشهر الشتّامين في تاريخ مصر الحديث، تصدّر منذ نحو ثلاثة عقود في المجال الرياضي، فقد شغل (بأصوات أعضاء الجمعية العمومية) عضوية مجلس إدارة الزمالك، ثاني أكبر نادٍ في مصر، وأحد أكبر الأندية العربية والأفريقية، حتى وصل إلى رئاسته، ثمّ لحق به في مجلس الإدارة نجلاه. وعضوية نادٍ مثل الزمالك قاصرة على الصفوة، كما أن نجله كان نائباً عن دائرةٍ ذات طابع بورجوازي، وليست من المناطق البسيطة أو الشعبية. أمّا الأدهى فإنه في الحالة الجدلية التي شهدها العالم الافتراضي فور سقوط مرتضى، انبرت شريحةٌ ليست قليلة (صفحاتهم تدلّ على أنهم من خلفيات علمية ومهنية مرموقة)، دافعت عنه بحرارة، حتى رآه بعضهم "رمزاً" للرجولة، ونموذجاً إدارياً ناجحاً (!).
حالة استثنائية تصدّرت في المجال الرياضي قبل السياسي، من دون أيّ مسوّغ منطقي، في غفلة من القيم
بالطبع، لا يمثل مرتضى منصور قاعدة في المجال العام المصري، وإنما حالة استثنائية، تصدّرت في المجال الرياضي قبل السياسي، من دون أيّ مسوّغ منطقي، في غفلة من القيم. وفي كلّ الأحوال، يستحقّ الأمر وقفة طويلة، للبحث في الآفات التي ضربت التربة المصرية خلال العقود الماضية، وآليات الصعود الاجتماعي، ومعايير التقييم المجتمعي، والتشوّهات الكبيرة التي أصابت كثيرين، حيث يظلّ البون شاسعاً بين الحالتيْن، والهوّة عميقة بين النُخبتيْن، كما يظلّ مسار الانحدار النخبوي طويلاً، بدلالاتٍ مؤلِمة، عن مدلول مفهوم النُخبة في عصريْن مختلفيْن كلّ الاختلاف.