جورة الموت والملف الضائع

22 اغسطس 2022
+ الخط -

يستمر النظام السوري بانتهاج سياسات الاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب حتى الموت في معتقلاته، منذ بدء صرخات المتظاهرين المندّدة بحكمه في مارس/ آذار 2011، ولم ينجُ من سياساته هذه الأطفال والنساء، ومن المؤسف أن هذه الطرق لم تبقَ حكراً عليه فقط، إذ انتهجتها خلال الصراع المسلح كلّ أطراف حكم الأمر الواقع، ومن يعمل تحت جناحها، والتي تحكم مجموعات السوريين في مناطق متفرّقة، رغماً عن إرادتهم بقوة السلاح، أو من خلال تبعيتها للدول النافذة في الملف السوري، ولعلّ استمرار تنفيذ هذه الجرائم بحق السوريين، وهي ترقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والتبجّح بإنكارها تارة، أو التفاخر ببشاعتها تارة أخرى، يشير إلى اطمئنان المسؤولين عنها، أنهم في منأى عن أي مساءلة قانونية وجنائية، سواء عبر القضاء السوري المحلي أو عبر المحاكم الدولية المختصة.
وصول أرقام المعتقلين والمختفين قسرياً إلى ما يزيد على 111 ألف شخص، غُيّبَ معظمهم أو قتل بقرارات من الأجهزة الأمنية، يدلّ على حجم الكارثة التي مني بها الشعب السوري بكل أطيافه. وعلى وجه الخصوص، عندما تكون أرقام المختفين ليست مسؤولية النظام السوري وحده، فالرقم المرعب أيضاً وجود نحو عشرين ألف مختفٍ قسرياً لدى الفصائل والمليشيات العربية والكردية التي تحكم مساحات متفرقة في سورية، وكذلك في سجون بعض دول الجوار، ما يعني أنّ سياسة النظام في مواجهة معارضيه هي نفسها التي يتّبعها المسلحون المعارضون له، أو الساعون من المعارضة إلى تقاسم السلطة معه، بما في ذلك تقاسم سياسة إرهاب السوريين وقتلهم وإخفائهم.
ينفي النظام السوري جرائم قتل المعتقلين السوريين، سواء التي وثقتها كاميرا المصوّر "قيصر" أو التي وثقتها كاميرات عناصر الأمن أنفسهم (جريمة حي التضامن، أو جورة الموت) لتأكيد ولائهم وتوثيقها أمام قادتهم، ولإمتاعهم بمشاهد تؤكّد ارتفاع نسبة الوحشية لدى مؤيديهم، وهو إذ يصرّ على النفي أمام أي إدانة دولية، فذلك من منطلق أنه الشاهد الوحيد والموثّق لجريمته، والقادر على التلاعب بالوثائق وابتداع طرق لتزويرها، وهنا لابد من التذكير أنّ كلّ الجرائم وعمليات الإعدام، سواء التي تتم بأمر قضائي أو خارج حكم القضاء يتم توثيقها وأرشفتها رسمياً، حسب سياسة الأرشفة الأمنية التي تمتد إلى تاريخ نشوء الجهاز المخابراتي السوري، وهو ما فطن إليه بعض المسؤولين واستدرك تأمين نفسه ورموز النظام من خلال الاستيلاء على بعض أرشيف التلفزيون السوري الرسمي، الذي كان يحتفظ بفيديوهات عن عمليات إعدام جماعية في الثمانينيات من القرن الماضي.

أجهزة الأمن السورية تعتمد إخفاء عناصر الإدانة المثبتة، من محو آثار الجريمة وموقعها، إلى إخفاء أبطالها أو إعدامهم سرّاً

نفي وزارة الخارجية صحة فيديوهات مجزرة التضامن لا يأتي من فراغ، وهو يتساوق مع فكر أجهزة الأمن السورية التي تعتمد إخفاء عناصر الإدانة المثبتة، من محو آثار الجريمة وموقعها، إلى إخفاء أبطالها أو إعدامهم سرّاً، أو انتحارهم وفق ما هو معمولٌ به في إجراءات سابقة طاولت كبار المسؤولين عن جرائم داخل سورية وخارجها، ومنها على سبيل المثال انتحار رجل الأمن السوري الأشهر، وزير الداخلية السابق، والمسؤول الأمني عن "قطاع لبنان" سابقاً، غازي كنعان. لذلك، ليس غريباً أن يختفي الضابط المسؤول عن جريمة حي التضامن أمجد يوسف، أو ينتحر اعتراضاً على ورود اسمه وصورته في مقاطع فيديو "مفبركة ومجهولة المصدر وتفتقد أدنى درجات الصدقية". حسب بيان وزارة خارجية النظام السوري، أو يمكن أن نرى بعض أهالي الضحايا في مقاطع اعترافات للنظام السوري تحت التهديد، ينفون خلالها وجود أبنائهم الظاهرة وجوههم في الفيديوهات، أو ينفون ولادتهم على وجه هذه الأرض.  
لقد تعاملت أجهزة الحكومة السورية ببرود شديد مع مسألة قتل المحتجزين داخل سجونها ومعتقلاتها المعلنة والسرّية، فحصلت من بعض أهالي الضحايا على وثائق موقعة منهم تؤكّد أن مقتل أبنائهم "الإرهابيين" كان جرّاء حوادث وفاة طبيعية، نتيجة أزماتٍ قلبيةٍ أو أمراض متنوعة، مقابل السماح لهم باستلام جثث أولادهم، وهذه، أقصد موضوع استلام جثة الضحية من الأجهزة الأمنية، تحول إلى حلم للأهالي، إذ يمتنع النظام منذ عام 2011 حتى من الاعتراف بوجودهم، وهو ما دفع الناس إلى قبول شروط النظام، والتماشي مع إجراءاته لتحديد مصير أولادهم وأسرهم وإعلان وفاتهم.

الغريب أن تتناسى المعارضة التي تقتات من لحم السوريين ودمهم، وضع ملف المعتقلين في جدول أولوياتها، وعلى طاولة مباحثاتها

وتأتي ضمن عمليات توثيق التزوير المرتكب من أجهزة الأمن قدرة النظام السوري على إصدار القوانين والتعاميم  والتحكّم بسجلات قيد النفوس والأحوال المدنية وشهادات الوفاة، حيث ذكر تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان صدر في 19 أغسطس/آب أن التعميم الأخير الصادر عن وزير العدل في حكومة نظام الأسد في 10 أغسطس القاضي بتحديد إجراءات حول سير الدعاوى الخاصة بتثبيت الوفاة ضمن المحاكم الشرعية "أنه يخالف دستور النظام نفسه الذي يقر مبدأ فصل السلطات، بينما يحدد التعميم الأدلة التي يجب أن يأخذ بها القضاة لتثبيت حالة الوفاة ويقدر التقرير عدد المغيبين قسرياً لدى النظام ما يزيد على خمسة وتسعين ألف معتقل (95696)".
رويداً رويداً، ينسى العالم ما تضمنته قرارات الأمم المتحدة عن المعتقلين، ومنها قرار مجلس الأمن 2254، الذي يعتبر "الإفراج عن المعتقلين وكشف مصير المغيبين قسرياً يسهم في بناء الثقة ويعزز استمرار السعي إلى حلّ سياسي للصراع". وهذا من طبيعة النظام الدولي الذي يتعامل مع القرارات أرقاما تحفظ في أدراج أرشيفه الزاخر بالنسيان، من قراراته عن القضية الفلسطينية، إلى قراراته عن الجولان السوري، إلى ما تضمّنته اتفاقيات السلام التي احتفلت بها الأمم المتحدة، وتعامت عن تنفيذ مضامينها، ولكن الغريب أن تتناسى المعارضة التي تقتات من لحم السوريين ودمهم، وضع ملف المعتقلين في جدول أولوياتها، وعلى طاولة مباحثاتها، فهل أضاعت ملف المعتقلين عبارات من مثل أنّه "فوق تفاوضي" بدل أن تجعله سابقة على أيّ حوار، أو تفاوض، بين طرفين سوريين (النظام والمعارضة) اللذين يرعاهما معاً الحلفاء الثلاثة روسيا وإيران وتركيا، ويقودونهم إلى مصالحة ربما باتت قريبة من دون أن تسطع الشمس فوق سماء المعتقلين؟

930EB9D8-8BB0-4CDA-8954-FE630C4A380F
سميرة المسالمة

كاتبة وصحافية سورية، رئيسة تحرير جريدة تشرين سابقاً، نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية