إسرائيل وخريطة "شرق أوسط جديد"
تؤكّد حرب الإبادة الجماعية الوحشية، التي شنّتها إسرائيل بعد هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر (2023)، إصرارها على تغيير خرائط المنطقة، أو فرض مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، بإعادة رسم خريطة المنطقة، البشرية والجغرافية والسياسية والأمنية، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية طويلة الأمد، وإضعاف خصومها بشكل ممنهج، فتبقى القوة الإقليمية الكُبرى والمهيمنة، اقتصاداً وأمناً، بخاصّة في ظلّ تشتّت القوى العربية وانقسامها.
لم تعد إسرائيل تجد ما يمنعها من إعلان طموحها في إعادة تشكيل الحدود والمعادلات الإقليمية بشكل مباشر، إذ تعمل لفرض حدود جديدة عبر التوسّع الاستيطاني، والعمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية، في غزّة والضفة الغربية، كما تمارس أعلى درجات استغلال الأزمات في دول المنطقة لتحقيق أهدافها بما يرسّخ وجودها قوةً مسيطرةً ومقرّرةً مصير الشرق الأوسط.
ويعتمد هذا المشروع على استثمار عوامل الضعف الإقليمي، مثل الانقسامات والمحاور والمطامع السلطوية، وحاجتها إلى الدعم الأميركي لتثبيت شرعيتها، في مقابل الصمت على انتهاكات إسرائيل حقوق الشعب الفلسطيني، وحروبها في المنطقة، كما تستفيد من الأوضاع التي تخلّفها الصراعات الداخلية التي تعانيها بعض الدول، مثل سورية ولبنان والعراق، إلى جانب التراجع الملحوظ في دعم المجتمع الدولي القضايا العربية الجوهرية، كالقضية الفلسطينية، والثورات ضدّ الأنظمة الاستبدادية القمعية.
الدعم الأميركي والأوروبي المستمرّ لإسرائيل محرّك أساس في تثبيت خطوات مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، بنسخته المتوافقة مع معايير بنيامين نتنياهو
تحاول إسرائيل توسيع نفوذها الإقليمي، بدعوى استهداف بنى حزب الله في لبنان، حيث تستغلّ الانقسامات الطائفية، وحالة التوتّر السياسي التي خلقها سلاح حزب الله مع الأطراف اللبنانية، وكذلك تستغلّ الضِّعفَين السياسي والاقتصادي العميقَين، اللذين أصبحا يهيمنان في المشهد اللبناني للتأثير في المزاج الشعبي، الذي بات في مواجهة الأطراف السياسية المشاركة في الحكومة كلّها، وفي رأسها حزب الله الذي بات بين مطرقة إسرائيل وسندان الحنق الشعبي ضدّه.
تهدف هذه الاستراتيجية الإسرائيلية في البناء (أو الأصح في الهدم) فوق ما دمّرته الخلافات الداخلية اللبنانية، في المدى البعيد، إلى إضعاف حزب الله قوةً سياسيةً وعسكريةً، وفرض واقع جديد في الحدود اللبنانية، يتماشى مع المصالح الإسرائيلية، بل تسعى إسرائيل إلى إعادة توزيع الحصص الطائفية بطريقة تجعل القوى اللبنانية أكثر تقبّلاً لشروطها الأمنية، بهدف فرض صيغة "السلام عبر الاستسلام".
أمّا في سورية، فتستغلّ إسرائيل الصراع المستمرّ داخل الدولة، والانقسامات العميقة، فتستمرّ الضربات الجوية الإسرائيلية، بدعوى استهداف مواقعَ مرتبطةٍ بإيران وحزب الله، بينما يكون الهدف الأساسي فرض نفوذ أمني طويل الأمد داخل سورية، وتهيئة الساحة هناك لتكون غيرَ قادرةٍ على دعم أيّ جبهة أو حزب "مقاومة" قد تشكّل تهديداً مستقبلياً لها. ويُعدّ الصمت الرسمي السوري تجاه تلك الهجمات، إلى جانب انشغال النظام السوري بأزماته الداخلية، فرصةً ذهبيةً لإسرائيل لتعزيز موقعها من دون أيّ ردّة فعل إقليمي أو دولي.
لم يعد مفهوم "الشرق الأوسط الكبير" مُجرَّد رؤية عابرة، بل يوشك أن يصبح واقعاً يفرض على الدول العربية تحدّيات جديدة في سبيل الحفاظ على سيادتهما
يُعدّ الدعم الأميركي والأوروبي المستمرّ لإسرائيل محرّكاً أساساً في تمكينها من تنفيذ سياساتها الإقليمية، وتثبيت خطوات مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، بنسخته المتوافقة مع معايير بنيامين نتنياهو، أي السلام بالقوة والهيمنة الإسرائيلية، وشطب البُعد الفلسطيني. وتمنح هذه القوى إسرائيلَ حرّيةً واسعةً لاتخاذ إجراءات أحادية من دون ضغوط دولية كبيرة، سواء فيما يتعلّق بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية، أو العمليات العسكرية في غزّة وسورية ولبنان، أو حتى التدخّلات السياسية. ويشكّل هذا الدعم الأميركي نوعاً من الغطاء السياسي لإسرائيل، إذ إنه يضمن عدم مواجهة إسرائيل أيّ ردّة فعل دولي حقيقي على انتهاكاتها الصارخة للقوانين الدولية وسيادة الدول في المنطقة.
إضافة إلى ذلك، يعطي انشغال القوى العالمية بأزمات أخرى كالحرب الروسية في أوكرانيا، والمنافسة مع الصين، إسرائيل مساحةً أكبرَ للتحرّك بحرّية. وقد أظهرت الأحداث أخيراً أن المجتمع الدولي يعتمد سياسةَ ازدواجية المعايير في التعامل مع الصراعات الإقليمية، فيغضّ الطرف عن تجاوزات إسرائيل ويساندها، في حين أنه يبدي مواقفَ صارمةً تجاه قضايا أخرى لا تلامس بالضرورة المصالح الغربية.
وفي هذا السياق، يتجلّى مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، الذي عادت وجدّدت إعلانه وزيرة الخارجية الأميركية (في حينه) كوندوليزا رايس في عام 2006، مشيرةً إلى أن المنطقة تشهد "مخاض ولادة" لتشكيل نظام إقليمي جديد، يعيد رسم خرائط النفوذ، ويؤسّس هيمنة إقليمية تخدم مصالح قوى دولية وإقليمية محدّدة. ومع ما نشهده اليوم من تحوّلات متسارعة، يبدو أن هذا المفهوم لم يعد مُجرَّد رؤية عابرة، بل يوشك أن يصبح واقعاً ملموساً يفرض على الدول العربية تحدّيات جديدة في سبيل الحفاظ على سيادتها، واستقرارها، أمام هذه المخاطر الاستراتيجية المتزايدة.