العوائد السياسية لاستراتيجية صمت الأسد
لم تمنع الاختلافات العميقة للدوافع والمصالح التي تحكم الأطراف السورية المتصارعة، وتنتمي إلى النظام السوري، أو إلى خصومه من معارضين ومحسوبين على قوى دولية وإقليمية، من إيجاد تقاطعات غريبةٍ في مصالح الطرفَين تحاول دفع الرئيس بشّار الأسد نحو حرب مع إسرائيل، إلى جانب حلفائه من حزب الله وحركة حماس وإيران، في غزّة ولبنان، وعلى الحدود السورية حالياً، فأنصار ما يسمَّى محور المقاومة داخل النظام، والمرتبطين بأجندة المليشيات التي ساعدتهم في كبح الثورة السورية، يرون أنّ الانخراط في الحرب يُعزّز شرعيته، ويجعل منه ركناً رئيساً في تحالف "وحدة الساحات"، الذي يربط بين مسارح الحرب، من غزّة ولبنان إلى سورية وإيران. هذا المسار يُقدَّم دفاعاً عن القضية الفلسطينية، وهو ما يُعطي النظامَ فرصةً لاستعادة شعبيته المفقودة أمام جمهوره، خاصّةً بعد سنوات من الحرب ضدّ معارضيه، التي هزَّت النظام على المستويات الداخلية والإقليمية.
بعض المعارضين قد يتواطأون مع العدو الخارجي الذي طالما قدّم نفسه عدوّاً تقليدياً لسورية
وفي هذا السياق، يرى "محور المقاومة" أنّ مواجهة إسرائيل جزء من الحفاظ على الهُويَّة القومية، والدور التاريخي لسورية حاميةً للقضية الفلسطينية، وأنّها تعزّز التحالفَ مع إيران وحزب الله، وهما داعمان رئيسان للنظام، وهذا الدور يتيح للأسد الحفاظ على مكانته الإقليمية في مواجهة خصومه العرب، الذين يعتبرون التحالف مع إيران تهديداً مباشراً لنفوذهم.
في المقابل، بعض المعارضة السورية، أو بعض الفصائل المسلّحة التابعة لجهات إقليمية مستفيدة من زعزعة العلاقة بين النظام وداعميه، أو صنّاع الرأي "الفيسبوكي"، تستخدم هذه الدعوات لدخول الحرب بطريقة مزدوجة، فهي لا تسعى إلى اختبار قدرة الجيش السوري فعلياً، بل توظّف ذلك لإحراج النظام، وكشف تواطؤ الأسد المزعوم مع إسرائيل.
فبعض المعارضين يدّعون أنّ النظام الذي دمّر سورية وقتل الآلاف من أبنائها، قد يتواطأون مع العدو الخارجي الذي لطالما قدّم نفسه عدوّاً تقليدياً لسورية. ومن جهته، سخّر النظام إمكانات سورية فيما كان يدّعي أنّه لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع هذا العدو. من خلال هذه الاستراتيجية، يهدف المعارضون إلى تعرية النظام من خلال التركيز على صمته تجاه الانتهاكات الإسرائيلية المتزايدة في الحدود السورية، ممّا يضعه في موقف محرج أمام مؤيّديه. فإذا لم يدخل الحرب، فسيظهر كمن خذل المقاومة وأخلّ بتحالفه مع إيران وحزب الله. أمّا إذا دخل الحرب، فإنّ النظام سيكون معرّضاً لمواجهة عسكرية غير متكافئة مع إسرائيل وحلفائها الغربيين، وهو ما قد يُؤدّي إلى تدمير ما تبقّى من قدراته العسكرية والاقتصادية، ويُعزّز من عزله إقليمياً ودولياً.
ستكون حرب النظام مع إسرائيل على حساب السوريين، من دون تحقيق مكاسبَ ملموسةٍ في جبهة النظام أو في جبهة المعارضة
ليست هذه الدعوات بعيدةً عن فهم النظام السوري لأهدافها، وهو حتماً لا ينجرّ إليها، ليس لأنّه يدرك أنّها ليست لتحقيق نصر عسكري على عدو مشترك لكل الجهات الداعية له، بما فيهم الأطراف المحسوبة على المعارضة، ولكن لأنّه جزء من لعبةٍ سياسيةٍ متعدّدة الأبعاد، والأطراف الداخلة فيها. فإيران صاحبة المصلحة العليا في تجنيد حلفائها كلّهم في هذه المعركة التي تخوضها من بعد، لم تضعه أمام خيار الحرب المباشرة مع إسرائيل، لمعرفتها المسبقة بواقع الجيش السوري المُنهَك من حربه الداخلية من جهة، ولأنّ الخصم هذه المرّة ليس شعباً أعزلَ كما كان الحال مع السوريين، فهذه حربٌ ضدّ الجيش الإسرائيلي المدعوم من قوىً كُبرى، والتي تتجنّب إيران نفسها الدخول في معركة مباشرة معه، وفي الوقت ذاته لأنّ خسارة الأسد، إلى جانب خسارات ذراعها في جبهتها المتقدّمة (حزب الله)، والانكسارات المتلاحقة لحركة المقاومة الفلسطينية في غزّة، يجعلها حريصةً على بقاء حليفها السوري، والحفاظ على نفوذها الاستراتيجي في سورية، والمنطقة عامةً. فدعم إيران للأسد ليس لشخصه، بل لدوره، ويرتبط بمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية والدينية في المنطقة، خاصّةً في ظلّ الصراع الإقليمي مع قوى مثل الولايات المتّحدة، وإسرائيل، والسعودية، ورغبتها في عدم إدخال هذه الأطراف الساحة السورية.
ولعلّ ما يقوم به اليوم جيش النظام من حرب ضدّ مناطقِ إدلب، بالتعاون مع حليفه الروسي، هو جزء من تفاهم بين الحليفين الروسي والإيراني، من جهة لإشغال الأسد بمتابعة حروبه الداخلية، ومن جهة مقابلة، لإبعاد خطر الفصائل من مليشيات إيران، حتّى لا تكون هذه المليشيات بين كمّاشتين. لكنّ ذلك كلّه لا يعني أنّ الجبهات فعلياً أخذت مواضعها، فكلّ تفصيل صغير في الأرض يغيّر المعادلات، وهو يعكس الطبيعةَ المعقَّدة للصراع السوري، إذ قد لا تلتقي المصالح الداخلية والخارجية لتحقيق التوازنات الحساسة، أو التسويات المأمولة من كلّ الأطراف، إلّا أنّ الدخول في حرب مع إسرائيل لن يكون في مصلحة السوريين بأيّ حال، سواء أكانوا من أنصار النظام أم من معارضيه، فالنتيجة ستكون المزيد من الدمار والاستنزاف الذي خلَّفته حرب 13 عاماً، وأدّت إلى هذا التصدّع العميق، ليس في البنية التحتية وفي الوضع المعيشي للسوريين، بل في أولوياتهم وإجماعاتهم الوطنية، ما يعني أنّ الحرب ستكون على حساب السوريين ومن أرواحهم، ومن دون أيّ أمل في تحقيق مكاسبَ ملموسةٍ لهم، سواء كانوا في جبهة النظام، أم في جبهة المعارضة.