تونس أو جمهورية الخوف
تتسارع الخطى حثيثة في تونس باتجاه الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بعد أن خيمت حالة من الضبابية على هذه المحطة، وتباطأت رئاسة الجمهورية في الإعلان عنها وتلكأت هيئة الانتخابات في إصدار مراسيمها وترتيباتها الإجرائية والقانونية، في غياب نص تشريعي يحدّد موعدها سلفا في دستور 2022 على عكس دستور 2014.
أكّد خبراء دستوريون عديدون أن خروقات كثيرة شابت عملية إعلان الانتخابات الرئاسية، من حيث غياب السند الدستوري في تحديد التاريخ الانتخابي، وغياب نص تشريعي في الغرض، بما فسح المجال للرئيس/ المترشّح لتحديد التاريخ في آجال ضيقة (أقلّ من ثلاثة أشهر) لا تسمح بالقيام بحملة انتخابية وافية، لا سيّما في حضور شرط جمع التزكيات الشعبية (عشرة آلاف) من دون الحديث عن خيار التزكيات البرلمانية أو تزكيات المجالس المحلية والإقليمية المتشكلة زمن قيس سعيّد ووفق قواعد لعبته، والتي تمثل جميعها دوائر لأنصاره ومسانديه. كما غابت في الدعوة الانتخابية الإشارة إلى الدور الثاني منها، الأمر الذي اعتبره العديد من الفقهاء الدستوريين خللا آخر، وخطرا على نزاهة الانتخابات، خاصة في حال مرور المترشح/ الرئيس والمشرّع على غير الصيغ القانونية قيس سعيّد إلى هذا الدور.
هذه الإخلالات الدستورية والقانونية التي حفت بإعلان الرئيس وترتيبات هيئة الانتخابات، واستحواذها على صلاحيات البرلمان، جعلت العديد من الأصوات تشكّك سلفا في قانونية الانتخابات الرئاسية المبرمجة بداية شهر أكتوبر، وإمكانية الطعن فيها أمام المحكمة الإدارية.
تعجز المعارضة التونسيّة أو ما تبقّى منها عن أن تتحد على موقف مشترك
وقد لحق تحديد الموعد الانتخابي إعلان سعيّد ترشحه لعهدة ثانية عبر صفحة رئاسة الجمهورية من منطقة برج الخضراء الحدودية والعسكرية في الجنوب التونسي، متوعدا في الوقت نفسه بملاحقة المندسين والمتآمرين، الأمر الذي جعل العديد من المتابعين يشكّكون أيضا في حيادية الدولة خلال المسار الانتخابي، أمام هيئة انتخابية معينة من الرئيس، تسهر على تلبية رغباته، ومؤسّسات دولة مركزية، جهوية ومحلية، يديرها أشخاصٌ وقع تعيينهم من القصر على مقياس الولاء للرئيس. وقد جاء إعلان سعيّد عن الانتخابات متأخّراً ومشوباً بالحيل، بعد تضييق ممنهج على المعارضة وقادة أحزابها، ووضع اليد على جميع مؤسّسات الدولة والحكم، وأهمها الجهاز الأمني والقضائي، وسجن (وملاحقة) جل المنافسين المفترضين في الانتخابات، ما عدا من لا يتمتعون بحاضنة شعبية واسعة أو الذين يتحرّكون في فلك السلطة.
يمكن اعتبار المضي في إجراء الانتخابات إنجازا ومكسبا في ذاته، لما يتضمّنه من احترام شكلي لبعض المواعيد والمحطات الرئيسية والمهمة، وفرصة لتحريك مياه السياسة الراكدة في تونس، السياسة التي سعت السلطة جاهدة، منذ يوليو/ تموز 2021، إلى تجفيف منابعها وتجريف ساحاتها، ومحطّة تلفت أنظار الحقوقيين والنشطاء والمتابعين في العالم إلى ما فعله قيس سعيّد بتجربة ديمقراطية، حققت مقادير من العدالة بين المواطنين، وإن أنكر كثيرون ذلك، ليصبح بفضلها رئيسا للجمهورية، رغم غياب التجربة النضالية والسياسية والحقوقية والفكرية، والكفاءة الإدارية.
كان قيس سعيّد أكبر المستفيدين من الديمقراطية التي أوصلته إلى أعلى سدّة الحكم، ولكنه تنكّر لها ولمن ساهموا في بنائها
كان قيس سعيّد أكبر المستفيدين من الديمقراطية التي أوصلته إلى أعلى سدّة الحكم، ولكنه تنكّر لها ولمن ساهموا في بنائها رغم كل أخطائهم، وها هو رئيس بعد ثورة الحرية الكرامة يُمعن في قمع الأصوات، ويستعمل كل أدوات الدولة للحفاظ على عرشه، ويكرّس مناخا يسوده الخوف بين الناس، وتصدُر أحكام قضائية في أثناء ولايته لم يسبق لها مثيل، من قبيل منع السياسي والمترشّح لطفي المرايحي من الترشّح مدى الحياة، أو منع السياسي والمترشّح عبد اللطيف المكي من مغادرة تراب الحي الذي يسكنه وحظر مشاركته في شتى وسائل الإعلام، يشمل ذلك وسائل التواصل الافتراضي.
في مقابل ذلك، وفي خضم هذا المشهد، تعجز المعارضة أو ما تبقّى منها عن أن تتحد على موقف مشترك وكلمة سواء في هذه اللحظة التي ينسج نظام قيس سعيّد خيوطها. وليس القول هنا بأن الموقف الموحد سيفرض بالضرورة تغييراً جذرياً للواقع، بقدر ما سيكون خطوة هامة لتقليص التناقضات بين الفرقاء والاجتماع على ما هو مشترك، وأهمّه وضع حد لهذه المنظومة أو على الأقل إرباكها، والتوجّه إلى الشعب بخطاب ينشغل أساسا بهمومه وقضاياه الاقتصادية والاجتماعية التي فشل فيها قيس سعيد فشلا ذريعا. لكن ما يجمع هذه الطبقة في الحقيقة هو الخوف المتبادل بعضهم من بعض، وعدم الثقة، خوف طيف واسع من عودة الديمقراطية وتصدّر حركة النهضة أو ما يشبهها المشهد من جديد. ولذلك لا ضير لديهم أن تزيد السلطة في إمعانها بتمزيق هذا الكيان وسحقه حتى تنعدم فرصه، وخوف "النهضة" من صعود بديل لرأس النظام يستكمل ما بدأ فيه سعيّد، وخوف بعض الديمقراطيين من استرجاع مسار ديمقراطي لا تتوفر عوامل نجاحه بين نخب مليئة بالأحقاد والضغائن، خوف الكلّ من الكلّ الذي يستغله النظام في سياسة التشتيت والتفريق.
ليس من البطولة أن يظلّ قيس سعيّد رئيسا، وليس كذلك لغيره إن استطاع الوصول إلى قصر قرطاج
مؤكد أن منظومة قيس سعيّد تحمل شروط انهيارها ولو بعد حين، ولكن التغيير النوعي على مستوى إدارة الشأن العام التونسي لن يتحقّق إلا بمصالحات بين النخب السياسية التونسية، لا يحاسب فيها طرف على موقف أو تقدير سياسي خاطئ أو مختلف، مهما كانت درجة اختلافه، ويجرّم فيها سارق أموال الشعب أو المتلاعب بإرادته أوالمنقلب على الدستور والقوانين، كما ينبع التغيير من إدراك حقيقة الفعل السياسي بكونه نضالا فكريا وقيميا وفق برامج سياسات عمومية تهدف إلى خدمة الصالح العام، بعيدا عن التشفي والتشويه والإقصاء والتنافس على الحكم بغرض سجن المنتصرِ المنهزمَ.
حين تدرك النخب السياسية التونسية أن شرف الوصول إلى الحكم أهم من الحكم في حد ذاته، وأن الحرية أسمى من الأيديولوجيا، وأن الكرامة أهم من الخبز، وأن الدولة أهم من الحزب، وأن الحيلة في السياسة في ترك الحيلة، سيقع حينها إنتاج قادة سياسيين بإمكانهم المساهمة في النهوض الحضاري ببلادهم وشعبهم، ونشوء سياسيين محمّلين بأفكار إصلاحية بعيدا عن وهم الزعامات الزائفة.
ليس من البطولة أن يظلّ قيس سعيّد رئيسا، وليس كذلك لغيره إن استطاع الوصول إلى قصر قرطاج، خاصة مع ما عهدناه من قدرة الأجهزة العميقة على محاصرة كل جديد وتطويعه، وإنما التحدّي في استخلاص دروس إخفاقات البلاد منذ استقلالها وعجزها عن بناء حياة ديمقراطية جامعة مع منوال اقتصادي وطني ناجع، وتحرير السلطة المدنية من تحكم لوبيات الأمن، لتأسيس مجتمع قائم على المواطنة بمفهوم الحق والواجب، عوض مجتمع الخوف.