تنمية بشرية

17 يونيو 2023

(محمد الجالوس)

+ الخط -

يصف علم النفس حبّ الذات بأنه "حالة تقدير للذات تنمو من خلال الأفعال التي تدعم نمو الشخص الجسدي والنفسي والروحي، حيث يشمل حبّ الذات إيلاء الاهتمام الكافي لسعادة المرء ورفاهيته". هذا يعني أن يسعى الإنسان في حياته إلى فعل ما يؤهله ليكون ذاتا ممتلئة ومستقلة ومكتفية، تدرك نواقصها وتسعى إلى إكمالها، وتدرك نقاط ضعفها وتسعى إلى تجاوزها أو التصالح معها، وتدرك اضطراباتها الشخصية وتسعى إلى علاجها ومحاولة الشفاء منها؛ ما يعني أيضا أن على المرء، ليصل إلى مرحلة من التسامي في علاقته مع ذاته والوصول إلى حالة من الاكتفاء (الصوفي) إلى حد ما، في محبته ذاته ومحبّته العالم انطلاقا من ذاته، عليه أن يمر باختبارات وتجارب ومراحل من العلاجات الطويلة جدا والمرهقة والمتلفة؛ ذلك أن البشر جميعا، لا استثناءات هنا، يخلقون ويكبرون محمّلين بذاكرةٍ جمعيةٍ عن الموت بكل ما تحفره هذه الذاكرة من مكابداتٍ شخصيةٍ وجمعيةٍ، تضاف إلى الذاكرة الفردية لكل شخص والمتعلّقة بتفاصيل نشأته وأصوله ومنبته الاجتماعي ودينه وعادات محيطه ... إلخ. لكن الشخص الذي يتمكّن من تجاوز كل المكابدات والاختبارات والوصول إلى حالة الصفاء والتسامي وحبّ الذات تلك سوف يعيش ممتلئا بالرضا والسعادة مهما كان شكل الحياة التي يعيشها، فهو على الأقل سوف يكون قد تخلّص من نصف كمية التوتّر التي تصيب الآخرين. ومع صعوبة تحقيق ذلك، ثمة من يقولون إنهم قد وصلوا إلى هذه المرحلة، وعلينا أن نصدّقهم، فالإيمان بتجارب الآخرين وتصديقهم واحد من تمارين تقدير الذات.

من هذا المنطلق، تركز تعليمات مختصّي ما تسمّى، حاليا، التنمية البشرية، على ضرورة التعامل مع الذات الشخصية كما لو أنها الوحيدة في الكون، هي وحدها منبع الحب والثقة والعواطف، هي وحدها ما يستحقّ كتلة الدعم الكبيرة. وغالبا هذه التعليمات تستهدف شريحة النساء التي يقع عليها ظلم شديد في مجتمعاتنا العربية، وتلقى على كاهلها مسؤوليات جسام تتمثل في تحميلها ثقل العادات والتقاليد وتعاليم الدين، منذ طفولتها ومراهقتها إلى أن تصبح شابّة ثم زوجة وأما، أو تبقى عازبة تعيش حياتها وحدها. كل ما تتلقاه من تعليمات التنمية البشرية المختصّة تتعلق بكيف تحبّ نفسها أولا وكيف تصبح هي محور نفسها وتعطي لنفسها لا الأهمية فقط، بل أيضا العواطف والدعم وكل المشاعر التي عادة ما يحتاجها الكائن البشري من مجتمعه ومحيطه.

لا بأس، على جميع البشر، لا النساء، فقط محبّة أنفسهم أولاً وإعطاؤها الأولوية، لكن هذا، كما أسلفنا، يجب أن يتم بعد سلسلة من المراحل الطويلة، لا بمجرّد إقناع النفس بأنها الأكثر أهمية (وهي كذلك فعلا)، ذلك أن قطع المراحل تلك وتجاوزها سوف تنشأ عنه شخصيات بسلوكات غير متوازنة اجتماعيا، أصحابها ذوات شخصيات ارتيابية وأنانية، وغالبا ما يلعبون دور الضحايا. فأن تحبّ نفسك يعني التدرّب على حبّ الآخرين، لا يعني الاكتفاء بذاتك والادّعاء أنك لا تحتاج أحدا. ما من كائن بشري يمكنه العيش من دون آخرين، حتى الكائنات الأخرى التي نتقاسم معها الكوكب هي كائناتٌ، بشكل من الأشكال، (اجتماعية)، فما بالكم بالبشر. أن تحبّ نفسك يعني أيضا قدرتك على التسامح مع أخطاء الآخرين كما تسامحت مع أخطاء ذاتك، قدرتك على الإحساس بما يقاسيه الآخرون، وقدرتك على مدّ يد العون لهم ومساندتهم ودعمهم حين يحتاجونك، قدرتك أيضا على فهم شخصياتِهم لفهم سلوكاتهم والتعامل معها بما هي، لا بالسيناريوهات التي ينسجها عقلك عنهم. أن تحبّ ذاتك يعني أن تكون حاجتك للآخرين طبيعية، مثل حاجتهم إليك، خصوصا في علاقة الحب، حيث الندّية هي أساس النجاح، لكنها الندّية المحبّة القائمة على التكامل، لا على الاتكال.

المحزن في الأمر أن إحساسنا أننا مختلفون يبيح لنا إعطاء النصائح للآخرين على شكل "تنمية بشرية"، وغالبا ما نعطيه للآخرين هو نتيجة الخذلان الذي نلاقيه في علاقاتنا الشخصية والمجتمعية، فنقدّم حصيلة تجاربنا كما لو أنها الحقائق، خصوصا مع سهولة عرضها على وسائل التواصل وسهولة انتشارها. بينما في الواقع كل شخص منا كتاب ذاته، ما هو مكتوبٌ في هذا الكتاب لا ينطبق على الآخرين إلا بمقدار ما يمكنه من التواصل الاجتماعي وبناء علاقات متوازنة مع الآخرين؛ أما الاكتفاء بالذات بوصفها الأساس والمنبع والنهر وحصى النهر تستقبل ولا تعطي، فهذا اضطرابٌ كبير في الشخصية، ولا علاقة له بتقدير الذات والنفس.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.