المفردات "التوكسيك" التي تحاصرنا

07 يونيو 2024

كم تبدو الحياة سهلة حينما نُحمّل الآخرين أسبابَ الفشل والأذى (Getty)

+ الخط -

بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصّات الدراما، وإتاحتها لجميع البشر من المستويات والأعمار كافّة، ظهرت مفرداتٌ جديدة، ودخلت اللغة العربية المنطوقة اليومية، حتّى أضحت، اليوم، جزءاً من هذه اللغة، ويتداولها البشر كما لو أنّها مفرداتٌ مُعتادة ومفهومة من الجميع، سواء أكانوا يتقنون اللغة الإنكليزية باللكنة الأميركية أم كانوا جاهلين بها؛ فيشعر من هم مثلي، ممّن لم يفهموا معاني كثير من هذه المفردات، بالنقص أمام الآخرين الذين يدخلونها في قلب كلامهم باللغة العربية، مستخدمين معها التصريف العربي، فتبدو كما لو أنّها مُفردة عربية غريبة إلي حدّ ما، كأن يقول أحدهم: "أنا بأورك من البيت حالياً"، والمقصود إنّني أعمل من البيت، تستبدل "work" بكلمة عمل، لكن، بلكنة وتصريف عربيَين، فتبدو كما لو أنّها جزءٌ من الجملة. أو مثلاً الجملة؛ "هي بتكرّش عليه"، والمقصود أنّ فلانة معجبة بفلان (الكراش)، من دون أن يعرف، والمصطلح آت من جملة "To have a crush on"، والتي تعني أنّ الشخص مفتون تماماً بشخص آخر لا يبالي به. طبعاً، هناك كثير جدّاً من الأمثلة التي تصادفنا جميعاً عن هذا المزج بين المفردات، واستخدامها في سياقات الكلام اليومي بشكلٍ غدا تلقائياً لدى كُثر. وأعترف لكم أنّني أخذت وقتاً طويلاً حتّى بدأت أستوعب ما يقال أمامي من كلامٍ بلغة عربية مُضمّن بمفردات من المسلسلات الأميركية الحديثة، كنت ألجأ إلى "غوغل"، سرّاً، لأسأله عن معاني هذه المفردات وأربطها بسياق الكلام كي لا أشعر أنّني قادمة من زمن آخر، أو كي لا أشعر بالنقص لقلّة ثقافتي اللغوية الحديثة.

على أنّ أكثر كلمة استوقفتني لفرط استخدامها هي "توكسيك" (Toxic)، والتي تعني (السامّ)، وتُستخدم حالياً للدلالة على العلاقات التي تترك أثراً سلبياً في الشخص، مهما كان نوع هذه العلاقة، علاقة الحبّ أو الصداقة أو الزمالة أو العلاقات الأسرية، كلّ العلاقات المُجتمعية المعروفة أصبحت قابلةً لاستخدام مُفردة توكسيك أثناء الحديث عنها، وسأعترف، أيضاً، أنّني قبل بحثي في "غوغل" عنها كنت أسمعها "توكسيد"، وحين أتباهى بأنّني مثقّفة أنكلوفونية مثل غيري أستخدم في كلامي "توكسيد" أثناء الحديث عن العلاقات، لم أكن أستطع تفسير لمعات السخرية في عيون من أتحدّث معهم، حتّى بحثت عن أصل الكلمة، ولماذا تستخدم.

تُلقي مُفردة توكسيك المسؤولية في فشل العلاقة، أيّ علاقة، على شخص آخر أو على الطرف أو الأطراف الأخرى فيها. عندما يقول أحدهم: إنّني في علاقة توكسيك، فإنّ الآخرين سوف يفهمون مباشرة أنّ الطرف الآخر مُؤذٍ، وهو سبب فشل العلاقة وتدميرها، والمُتحدّث، بطبيعة الحال، هو الضحية الذي دخلها بقلب نظيف ونيّة صافية، كما لو أنّه كامل الأوصاف، الذي تتحدث عنه الأغنية المشهورة. لا تترك مُفردةُ توكسيك أيَّ مجال للقول إنّ العلاقات البشرية مُعقّدة أكثر بكثير من أن يكون الطرف الآخر وحده المؤذي والسلبي، وإنّ الطرفَين مسؤولان عن تنقيتها من السموم والشوائب، لا تترك هذه المفردة أيَّ مجال للقول إنّ الطرف الآخر ربّما يقول لآخرين نفس الكلام عن شريكه السابق، ويصفه بالتوكسيك أيضاً، خصوصّاً أنّ وسائل التواصل مُمتلئة، حالياً، بفيديوهات التنمية البشرية، التي تُحذّرنا من الأشخاص التوكسيك، ما يعزّز لدينا نظرية أنّنا كاملون، فإن فشلنا فلأنّنا لم نتجنّب هؤلاء النماذج من البشر. يا سلام! كم تبدو الحياة سهلة حينما نُحمّل الآخرين أسبابَ الفشل والأذى، ونتحدّث عن سمّيتهم كي نظهر نحن أبرياء وطاهرين!

حين أفكّر في لغتنا العربية، التي كنّا نستخدمها من دون إضافات، أرى مفرداتها أكثر تسامحاً في تفسير العلاقات البشرية، وفيها مساحة أكثر للتحليل والفهم وإطلاق الأحكام على الآخرين، أكثر رأفة بالنفس وبالآخر، سواء أكان فرداً أم مجتمعاً، وأنا، حقّاً، لا أستطيع معرفة السبب في هذه الأحكام القطعية التي نطلقها باستخدام مفردات إنكليزية لا تحتمل التأويل، هل السبب هو ما كرّسته وسائل التواصل من فردانية تكاد تصل إلى حدّ الاضطراب النفسي فينا، أم نحن نعيش في عالم اصبح فيه الاختزال هو الأساس، فيمكن لمفردة واحدة اختزال علاقات بشرية اشتغل عليها الفلاسفة وعلماء النفس والمُفكّرون زمناً طويلاً كي يُفكّكوا بعض تشابكها؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.