تركيا وحسابات الاستقطاب الانتخابية
في انتخاباتٍ رئاسيةٍ وبرلمانيةٍ تُعدّ الأكثر أهميةً وحساسيةً في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة الممتد منذ قرن، وبعد تقريب موعد إجرائها إلى 14 مايو/ أيار المقبل عوضاً عن 18 يونيو/ حزيران، حسب تصريحات الرئيس أردوغان، يبدو أنّ المشهد السياسي التركي سيكون، في الأشهر القليلة المقبلة، أكثر سخونةً ونشاطاً، وسيشهد مزيداً من الحراك في خريطة التحالفات والاستقطابات الحزبية العابرة للأيديولوجيات والتوجهات.
المتتبع للمشهد التركي الحالي والتحالفات الرئيسية التي تدور في فلك ثلاثة تحالفاتٍ أساسيةٍ، وهي تحالف الشعب الحاكم، وتحالف الطاولة السداسية المعارض، وتحالف العمل والحرية المكوّن من ستة أحزابٍ كرديةٍ ويساريةٍ معارضةٍ، يُدرك مدى حساسية هذه الانتخابات وأهمية التحالفات التي تكتسب أهميةً خاصةً في ظلّ حالة الاستقطاب السياسي المرتفعة جداً في البلاد، والتي تشير إلى أنّ الفترة الباقية قبل الانتخابات ستشهد مزيداً من التحالفات السياسية والحزبية، والتي ستفتح بدورها الباب واسعاً أمام مزيد من الاستقطابات الحادة للحصول على أكبر قدرٍ من أصوات الناخبين الأتراك الذين يعيشون أسوأ أزمةٍ اقتصاديةٍ ومعيشيةٍ منذ عقدين.
في حسابات هذا الاستقطاب الذي يُعدّ جزءاً من المشهد السياسي التركي، يتبنّى تحالف المعارضة مقاربةً تميل إلى التركيز على التحدّيات الداخلية، وخصوصاً في ما يتعلّق بالعامل الاقتصادي، وموضوع اللاجئين السوريين، في محاولةٍ منه لإلحاق أول هزيمةٍ بأردوغان الذي لم يذق طعم الهزيمة في 13 انتخاباً متتالياً.
بَنت المعارضة استراتيجيتها على تحويل ملف اللاجئين السوريين إلى ركنٍ أساسيٍ في الدعاية الانتخابية
وفي ما يتعلّق بالعامل الاقتصادي الذي يُعدّ من أكثر العوامل تأثيراً في قرار الناخب التركي، تعوّل المعارضة على الحالة الاقتصادية المتردية التي تعاني منها البلاد لاستقطاب الناخب، فبنت خطابها الانتخابي وتحرّكاتها الداخلية على الانتقاد الواسع لسياسات الحكومة الاقتصادية والمالية والمعيشية، وقدّمت خطاباً يقوم على وعودٍ انتخابيةٍ تحاكي عواطف الناخبين المستائين من التراجع المتسارع لجودة حياتهم، بعد أن وصل التضخم إلى 85% في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قبل أن يتراجع إلى 64% في الوقت الراهن. كذلك ربطت هذا الخطاب الانتخابي باستراتيجيةٍ تعتمد على التقرّب من شرائحٍ معينةٍ من المجتمع لتشتيت أصواتها، كالشريحة المحافظة التي كانت تُصوّت تقليدياً لحزب العدالة والتنمية، من خلال تقديم وعودٍ اقتصاديةٍ وخطابٍ جديدٍ يهدف إلى بناء الثقة مع هذه الفئة، معوّلةً في ذلك على الانشقاقات التي أصابت الحزب بعد تأسيس كل من علي بابا جان وأحمد داود أوغلو حزبي الديمقراطية والتقدّم والمستقبل، والتي جعلت حدود الخلاف بين التيارات القومية ذات الصبغة العلمانية والتيار المحافظ تتماهى وتتداخل في ما بينها بعد أن بقيت فتراتٍ طويلةٍ واضحة المعالم، وكذلك التقرّب من حزب الشعوب الديمقراطي الذي يحصد غالبية أصوات الأكراد منذ 2012.
وفي ما يتعلّق بموضوع اللاجئين السوريين الذي تحوّل إلى ملفٍ سياسيٍ بامتياز وخرج عن طبيعته الإنسانية، بعد أن أصبح أحد أهم بنود المنافسة السياسية المستعرة بين الأحزاب، والبرنامج الرئيس لبعض الأحزاب المعارضة المتطرّفة لاستقطاب الناخبين، فقد بنت المعارضة استراتيجيتها على تحويل هذا الملف إلى ركنٍ أساسيٍ في الدعاية الانتخابية، فانتقدت سياسة الحكومة تجاه ملف اللاجئين، وشنّت هجوماً على أردوغان وحزبه، وعدّته المسؤول عن هذه الإشكالية التي ربطتها بارتفاع نسبة البطالة، وغيرها من الإشكالات المجتمعية، وقدّمت وعوداً بإرجاع اللاجئين والتصالح مع النظام السوري في حال فوزها بالانتخابات.
بنى تحالف الحكومة استراتيجيته الانتخابية لاستقطاب الناخبين على ثلاثة عناوين رئيسة
على الطرف المقابل، بنى تحالف الحكومة استراتيجيته الانتخابية لاستقطاب الناخبين على ثلاثة عناوين رئيسةٍ: تذكير الناخبين الأتراك بالإنجازات التي استطاع أردوغان وحزبه تحقيقها خلال العقدين الماضيين، والتي قد تدفع شريحةً كبيرةً من الأتراك إلى إيثار الاستقرار والخبرة في إدارة البلاد على الخوض في مسارٍ مجهولٍ مع أحزاب المعارضة التي تأتي من خلفياتٍ متباعدةٍ ومتناقضةٍ يمينيةٍ ويساريةٍ وقوميةٍ. تقديم حزمةٍ من إجراءات التحفيز الاقتصادي لدعم المواطن، كرفع الحدّ الأدنى للأجور بأكثر من 55%، والسماح لأكثر من مليوني عاملٍ بالتقاعد المبكّر، وإطلاق مشاريع للإسكان الاجتماعي بأسعارٍ مخفضةٍ جداً ودفعاتٍ ميسّرةٍ. تبنّي مشروع العودة الطوعية للاجئين السوريين، لتحييد هذا الملف عن سيرورة الانتخابات وسحبه من يد المعارضة.
وبالتالي، ستكون لهذه العوامل انعكاساتها الواضحة في خطط التحالفات وبرامجها في الفترة المقبلة، وسيكون لها تأثيرها الواضح في إقناع الناخبين بالتصويت لمرشّحي التحالفات وفقاً لتماسُك رؤاها ومخطّطاتها وما تقتضيه متطلبات المرحلة المقبلة، لتكون بذلك الانتخابات المقبلة من أكثر الانتخابات التاريخية في تركيا التي سيشتد فيها السباق، وتصل التوتّرات والاستقطابات السياسية إلى ذروتها في ظل إصرار المعارضة وحشدها لإسقاط النظام الرئاسي، واستعادة النظام البرلماني الذي صوّت الشعب ضده عام 2017.