بين 1919 و2011 في تاريخ مصر المعاصر
رغم الفاصل الزمني الكبير بين ثورتي مارس 1919 ويناير 2011، الذي يقارب قرناً، فإنّ قاسماً مشتركاً يجمع بينهما، تمثّل في الزخم الشعبي الجماهيري الكبير الذي جعل التوصيف الدقيق لكلتيْهما "الثورة الشعبيّة". وفي المقابل، ثمّة فارقٌ كبيرٌ بينهما أدّى إلى النجاح الذي حقّقته الأولى والفشل الذي مُنيَت به الثانية. مثّلت نقطة القيادة الفارق الأكبر والأخطر بينهما، إذ جاءت ثورة 1919 بقيادة ثوريّة ممثّلة في حزب الوفد، وبزعامة شعبيّةٍ حقيقيّةٍ ممثّلةً في الزعيم الوطني، سعد زغلول باشا، الذي حاز شعبيّة كاسحة جارفة، في طول مصر وعرضها، لم يعرفها تاريخ مصر الحديث.
أنشأ سعد زغلول حزب الوفد الذي مثّل حينذاك رأس حربة الحركة الوطنيّة المصريّة ليكون، بحسب تعبير المؤرّخ الراحل طارق البشري: "تنظيم الحركة الوطنيّة الديمقراطّية المصرية لثورة 1919، الذي استطاع أن يجمع المصريين ويستوعب نشاطهم وطموحهم الوطني والحضاري، وحققّ بذلك أسمى ما يمكن تحقيقه في إطار ما تتيحه الظروف التاريخيّة، الذي أسهم بتكوينه الجامع في تكوين الجامعة المصرية". أمّا ثورة 25 يناير فغابت عنها القيادة، فقد اندلعت على يد مجموعات شبابيّة متناثرة تعاني سيولة فكريّة وتنظيميّة، فجاءت الثورة خالية من القيادة الشخصيّة والتنظيميّة والأيديولوجيّة، وكانت هذه الثغرة الأكبر ونقطة الضعف الكبرى في مسيرتها التي قادتها إلى فشلٍ ذريع، ما جعلها مطيّةً لكلّ راكبٍ، حتى لأشخاص وكيانات وقفت ضدّها بكلّ قوّة، وانقلب خطابهم دفعةً واحدةً بعد إطاحة الرئيس حسني مبارك، من الزمهرير إلى الهجير من دون أدنى خجل، حتى ادّعى الخليّ حُرقة الشجيّ.
كان سعد زغلول زعيماً ثوريّاً فذّاً، لكنه أيضاً كان رجل دولة من طراز رفيع يدرك جيّداً مدى تعقّد بنية الدولة المصريّة، وصعوبة السيطرة عليها
تمرّ في هذه الأيام الذكرى المئويّة للانتخابات البرلمانيّة المصريّة، التي أُجريت في مطلع عام 1924، التي اكتسحها "الوفد" اكتساحاً بنسبة 90% رغم الحملات المُقذعة من خصومه، التي كان يردّ عليها سعد زغلول بمقولته التاريخيّة: "لهم السِباب ولنا مقاعدُ النوّاب". وفي هذه الذكرى، تفرض المقارنة نفسها بين المشهد الانتخابي في أعقاب ثورة 1919 ونظيره في أعقاب ثورة 2011. كان الملمح اللافت الذي استوقف المؤرّخين تردّد سعدزغلول في قبول الوزارة، رغم الاكتساح الوفدي الهائل مقاعد البرلمان، وقد ثار تساؤل كبير في الفضاء السياسي المصري آنذاك يتعلّق بحزب الوفد ونظرته إلى الوزارة الجديدة مفاده: هل يقبل سعد رئاسة الوزارة؟ أم يتركها لأحد أنصاره أو لواحد من غير حزبه ممّن يثق به ويقتصر على زعامة الحركة الوطنيّة؟ بيْد أنّ القدر المُتيقَن منه أنّ سعد زغلول ظلّ متردّداً عشرة أيّام في قبول الوزارة، حتى حسم أمره بعدها استجابة لثقة شعبيّة غير مسبوقة تمثّلت في نتيجة الانتخابات. وهنا كتب طارق البشري في كتابه الأخير "ثورة 1919 في تاريخ مصر المعاصر"، معلّقاً على هذه النقطة: "أدركتُ وقتها من مطالعة الصحف، في فترة تولّيه الوزارة، أنّه كان على حقٍّ في التردّد، ذلك لأنّ السُلطة ليست مقاعد في مجلس نيابي، ولكنها أسلوبٌ للسيطرة على جهاز الدولة، وهو جهاز عنيد مرتبط الأواصل، وموصول الأسباب بالسُلطة الشرعيّة (الملك)، وبالسلطة الفعليّة (الإنكليز)، وهو مبنيٌّ على هذا الأساس برجاله ونمط علاقاته، بدءاً من سنة 1882 وقد كان سعد يعرف ذلك، ويدرك دهاليز علاقاته بحُكم ما شغله من قبل من مناصب فيه". يواصل البشري: "وهذا الجهاز هو ما يجمع المعلومات لرئاساته، لتتخّذ القرارات السياسيّة بناءً على هذه المعلومات... وأنّ القيادة الغريبة على هذا الجهاز، قد تصير في حصارٍ منه، من خلال سوق المعلومات وأسلوبه وتنفيذ القرارات، ووسائله، وقد وصفت جهاز الدولة في كتاباتٍ لي سابقة، بأنّه كالقلعة مَن دخلها ولم يستطع السيطرة عليها سجنته، فالداخل للقلعة إمّا مُسيطر، وإمّا سجين".
كان سعد زغلول زعيماً ثوريّاً فذّاً، لكنه أيضاً كان رجل دولة من طراز رفيع، يدرك جيّداً مدى تعقّد بنية الدولة المصريّة، ومدى صعوبة السيطرة عليها، لأنّ جهاز الدولة صعب المراس وإجباره على الإذعان أمرٌ ليس يسيراً، لهذا لم تأخذه نشوة الانتصار الساحق في الانتخابات البرلمانيّة، فأدرك منذ البداية أنّ دخوله القلعة أو قبوله الوزارة يعني معركة طاحنة وصراعاً مريراً في الداخل مع أصحاب تلك القلعة، فإمّا أن ينجح في فتح أبوابها للشعب أو أن يصير محاصراً داخلها، وإن لم ينجح في فتح أبوابها صار سجيناً وقُضيَ عليه. هذه النقطة غابت تماماً عن الشباب في يناير/ كانون الثاني 2011، بسبب خبرتهم المحدودة، إلى جانب وقوع بعضهم في فخّ الزعامة "الافتراضيّة" تحت وقع العدد الكبير من المُعجَبين والمُتابعين لصفحته في الفضاء السيبراني، فقد كان بعض الشباب يتحدّث عن المجلس العسكري، وكأنّه يأتمر بأمره ورهن إشارته، فضلاً عن الوجوه النُخبويّة البالية القديمة من الموقوذة والمترديّة والنطيحة، الذين رأوا في "25 يناير" غنيمةً باردةً وجدوها على قارعة الطريق، فأهدروها بحماقة منقطعة النظير وغباء نادر المثال.
ثورة 25 يناير اندلعت على يد مجموعات شبابيّة متناثرة تعاني سيولة فكريّة وتنظيميّة، فجاءت خالية من القيادة الشخصيّة والتنظيميّة والأيديولوجيّة
تمخّضت الانتخابات البرلمانيّة في 2011 عن حصول الإخوان المسلمين وحلفائهم، على أغلبيّة المقاعد بنسبة 70%. هنا تفرض المقارنة نفسها بين المشهديْن، مشهد تردّد سعد زغلول في قبول الوزارة رغم حصوله على 90%، ومشهد حالة النرجسيّة العاتية والغطرسة الشديدة التي أصابت قيادات جماعة الإخوان المسلمين، عقب حصولهم على الأغلبيّة في الانتخابات البرلمانيّة التي أُجريت في أواخر 2011، رغم أنّ ما حصلت عليه الجماعة (باحتساب بقيّة المقاعد التي حصل عليها شركاؤهم من المُتنطّعين المُتسلّقين، الذين لعبوا دوراً كبيراً في الإجهاز على تجربة التحوّل الديمقراطي، وطعن ثورة يناير، سيّما دورهم في تأجيج الاستقطاب الإسلامي العلماني، ودفعه إلى نقطة اللاعودة، وانساق الإخوان وراءهم بغباء لا مثيل له، في قضايا عجيبة مثل "الضبّاط المُلتحين" وغيرها، وهو أمرٌ سيتكفّل التاريخ وحده بالكشف عن خلفيّاته) كان لا يتجاوز 70% من مقاعد البرلمان، والأعجب هو التناقض الشديد بين لساني الحال والمقال في خطاب الجماعة، والحديث عن الزهد في السلطة، في حين أنّ الواقع كان يسير في الاتجاه المضادّ. أصابت نسبة الـ 70% الجماعة برغبة عارمة في الاستئثار بكلّ المواقع والمناصب، رغم أنّ الجماعة، في الأصل، في أفضل توصيف لها، كيانٌ محافظ، ولم يكن يوماً ثوريّاً في أيّ مرحلة في تاريخه. فضلاً عن إغفال نقطة مهمّة تتمثّل في إشكاليّة العلاقة بين الدولة المصريّة وجماعات الإسلام الحركي، التي تستبطن فكرة "الكيان الموازي" للدولة الوطنيّة، فقد ترسّخ في العقل الجمعي لمؤسسّات الدولة المصريّة، في نسختيّها الملكيّة والجمهوريّة، أنّ جماعات الإسلام الحركي وتنظيماته، بشقّيْها السلمي والعنيف، هي مصدر التهديد الأوّل الذي يتربّص بالدولة، ويسعى إلى اختراق مؤسسّاتها بتشكيل تجمعّات حركيّة داخلها، يربطها تنظيم هرمي يسعى لابتلاع الدولة، وتقديم نفسه بديلاً لها، هذا فضلاً عن الميراث الصراعي الدموي الطويل المرير بين دولة 23 يوليو (1952) والإسلامييّن.
كتب فهمي هويدي، في إبريل/ نيسان 2012 ، مقالاً مهمّاً في صحيفة الشروق المصريّة، تحت عنوان "وقعوا في الفخّ"، تعرّض فيه لقرار الجماعة تقديم مرشّح بالانتخابات الرئاسيّة في عام 2012، جاء فيه: "كيف مرّ على الإخوان أنّ الجماعة الوطنيّة المصريّة، بل والمجتمع المصري بأسره، يمكن أن يحتملوا في وقتٍ واحدٍ، رئاستهم لمجلسي الشعب والشورى، والجمعيّة التأسيسيّة للدستور، و رئاسة الحكومة، و رئاسة الجمهوريّة أيضاً؟ وكيف يقتنع الرأي العام بحديثهم عن المشاركة أو عن زهدهم في السُلطة؟". بالطبع ذهبت كلمات هويدي، وغيره، أدراج الرياح، فالقوم لا يحبّون الناصحين، والأعجب أنّهم كرّروا في الرئاسة كلّ أخطائهم التي وقعت في فترة البرلمان، مع إعادة إنتاج الخطاب القديم نفسه، حتى جرى ما جرى.