بولندا ـ أوكرانيا... لماذا؟

25 سبتمبر 2023

قطارات محمّلة بالحبوب الأوكرانية على الحدود مع بولندا (20/9/2023/فرانس برس)

+ الخط -

لم يكن أكثر المتشائمين ليعتقد أنّ صِداماً سيقع بين أوكرانيا وبولندا على خلفية عبور حبوب الأولى في أراضي الثانية، وما تُلحقه من أضرار بالمزارعين هناك. لم يكن ليعتقد أحد أن وارسو، الحليفة الطبيعية لكييف، ستتحول إلى خصمٍ صامتٍ لا صديق حميم. في الواقع، قد تكون علوم الاجتماع والنفس قد نبّهت سابقاً إلى خطورة تحوّل صديق عزيز إلى عدوّ لدود في حال تضارب المصالح. وبما أن شعوب أوروبا الشرقية لا تزال عاطفية، بصورة مشابهة تقريباً لشعوب الشرق الأوسط، لم يكن مستبعداً حصول مثل هذا النزاع. والخلافات بين الأصدقاء عادة ما تكون أكثر شراسة من الصراعات بين الأعداء، لأن ما يعرفه صديقك، عدوّك اللاحق، عنك يبثّ فيك كراهية لا تنتهي إلا بحالتين: حرب مدمّرة بينكما أو تعبيد طريق المصالحة عبر سدّ كل ثغرة يمكنها إنتاج صدام مستقبلي. وتستلزم مثل هذه المصالحة إعادة ترميم الثقة قبل كلّ شيء، وتدخّل طرف ثالث... الولايات المتحدة في هذه الحالة. 
في العادة، ما يحرّك العلاقة العاطفية، بمعنى الصداقة، بين أفراد أو مجتمعات أو دول، هو التناغم بينهما تجاه هدفٍ واحد أو عدوّ مشترك، غير أن برود تلك العلاقة سيسود حين يتصادم الطرفان على المصالح الخاصة. ويواجه حزب "العدالة والقانون"، الحاكم في بولندا، انتخابات تشريعية في 15 الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول)، تتداخل فيها مسألة الحبوب الأوكرانية والحرب الروسية على أوكرانيا وتسليح الجيش البولندي ونموّ اليمين المتطرّف. وهي عوامل تدفع وارسو إلى اعتماد خطابٍ متشدّد تجاه كييف، كي لا تخسر مزارعيها، وبالتالي، كتلة ناخبة أساسية فيها.  
صحيحٌ أن معظم التقارير الإعلامية الواردة من بولندا، فضلاً عن تصريحات سياسيين بولنديين، تشي بعودة الهدوء إلى العلاقة الأوكرانية ـ البولندية بعد الانتخابات، لكنها في مكانٍ ما انكسرت. وسيزداد هذا الانكسار حدّة على وقع الانتصارات الأوكرانية في الحرب، خصوصاً في الأيام الأخيرة، مع تصعيد الجيش الأوكراني هجماته في الشرق والجنوب وشبه جزيرة القرم. الشعور بأن الخطر يضمحلّ شيئاً فشيئاً على وجود أوكرانيا دولةً بحدّ ذاتها سيسمح للبولنديين بإرساء مسار آخر للتعامل معها. 
عودة إلى المصالح البولندية. لم يعد مجهولاً أنّ اصطفاف بولندا إلى جانب أوكرانيا يعود، في جزء أساسي منه، إلى العداوة التاريخية بين البولنديين والروس. كما أن الاستعانة بالتاريخ هنا، خصوصاً عبر الإضاءة إلى معاهدة لوبلين الموقّعة في عام 1569 بين بولندا وليتوانيا، حين كانت حدودهما أكبر مما هي عليه، وكانت أوكرانيا جزءاً منها، صبّت في سياق عاطفيٍّ لا سياق سياسي محض. ومن جملة المصالح البولندية أيضاً أنّ وارسو تُدرك أنّ نمو الجيوش يتسارع في أوقات الحروب. وما كان عصياً بعض الشيء للجيش البولندي في الحصول عليه، بات أسهل بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فتحت موسكو أبواب الجحيم عليها، فوارسو تحوّلت إلى الركن الأساسي في الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، الذي يضمّها إلى ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا. باتت بولندا ممرّاً للسلاح الوارد من الغرب إلى أوكرانيا، كما أن الانتشار العسكري الغربي، الأميركي خصوصاً، فاق ما حلمت به في عام 2019 بإنشاء قاعدة فورت ترامب، نسبة إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، تتضمّن وجوداً بنحو ألفي عسكري أميركي فيها.  
هل من احتمال لعودة التناغم البولندي ـ الأوكراني؟ مدّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يده أولاً، بزيارته الخاطفة بولندا، مساء السبت، ولقائه "بطليْن" بولنديين. الآن، من المفترض أن تردّ وارسو على هذه الخطوة. في المقابل، وضمن مبدأ "لا شيء شخصياً، إنها فقط أعمال"، لن تُبقى واشنطن بعيدة عن هذا الخلاف الطارئ، لا بل ستندفع بصورة غير معهودة إلى حلّ الأزمة. في النهاية، أوكرانيا، ثم بولندا، بوابتها إلى الشرق الواسع، الممتد من البلطيق إلى المحيط الهادئ، حيث تربض الصين.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".