بوتين واختراقات كورسك

10 اغسطس 2024

بوتين في كورسك لإحياء ذكرى أكبر معركة دبابات في الحرب العالمية الثانية (23/8/2018 Getty)

+ الخط -

يزخر أرشيف الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) بقصص مرتبطة بمعارك ستالينغراد (فولغوغراد حالياً) بين الجيش السوفييتي والقوات الألمانية النازية. طغت شهرة ستالينغراد على عديد من المعارك الجوهرية في تلك الحرب، أبرزها معركة كورسك الروسية، التي دارت فيها أكبر معركة دبّابات في التاريخ، تواجه فيها نحو خمسة آلاف دبّابة سوفييتية وثلاثة آلاف دبّابة ألمانية، وانتهت باستمرار الزحف السوفييتي إلى برلين. ستالينغراد كانت في حاجة إلى كورسك، لإتمام انتصار جوزيف ستالين على أدولف هتلر عند ضفاف نهر الفولغا، لا العكس. ذلك كلّه، حضر في الأسبوع الحالي، مع الاختراقات الأوكرانية الواسعة في كورسك نفسها، بغطاء جوي من طائرات أف 16، التي حصلت عليها كييف أخيراً من دول غربية عدة.
على الرغم من أنّه سبق لما يُدعَى "فيلق حرّية روسيا"، المعارض للكرملين، أن اخترق أراضٍ روسية، في بيلغورود وكورسك في العامَين الماضي والحالي، غير أنّها المرّة الأولى التي تُخترق فيها الأراضي الروسية بهذه الطريقة منذ الحرب العالمية الثانية، خصوصاً أنّ الموقف الرسمي الأوكراني تبنّى هذه الاختراقات. من شأن مثل هذا التطوّر أن يطيح المسار التفاوضي الذي بوشر تزخيمه في الأسابيع الأخيرة، بعد مؤتمر أوكرانيا للسلام في سويسرا الذي عُقد في 15 و16 يونيو/ حزيران الماضي. يكفي متابعة ما جرى في مرحلة ما بعد انتهاء المؤتمر، وحتّى يوم إعلان الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، تلقّي كييف أول دفعة من طائرات أف 16، الأحد الماضي.
تحدّث زيلينسكي بعد طي صفحة مؤتمر سويسرا بإيجابية نسبية عن روسيا، مُؤيّداً فكرة التفاوض معها ودعوتها إلى قمّة ثانية، بعيد تغييبها عن الأولى. كما أرسل وزير خارجيته دميترو كوليبا إلى الصين لدفع بكين قدماً في سياق تحفيز روسيا على المشاركة في المفاوضات. تدلّلت موسكو، على قاعدة وجوب اعتراف كييف بروسيّة لوغانسك وزابوريجيا ودونيتسك وخيرسون وشبه جزيرة القرم الأوكرانية، قبل بدء أيّ مفاوضات. كان واضحاً أنّ هناك حلقة مفقودة. أوكرانيا في وضع صعب عسكرياً لكنّه ليس مأساوياً بما يكفي للتنازل عن أراضيها، بينما لم يمنح التقدّم الروسي الثابت منذ فبراير/شباط الماضي في جبهات الشرق ما يكفي موسكو للادعاء بقدرتها على السيطرة على أراضٍ أوكرانية.
تبيّن في معارك كورسك أنّ تلك الحلقة المفقودة، كانت مناورةً أوكرانية، تمهيداً للهجوم. وهو ما تكرّر للمرة الثانية في تاريخ هذه الحرب. في ربيع 2022، وبعد أسابيع على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، أُجريت مفاوضات أوكرانية ـ روسية في بيلاروسيا، في وقتٍ كانت القوات الروسية تطوّق كييف، وتحتلّ أجزاءَ واسعة من سومي وخاركيف في الشمال الشرقي. بدت أوكرانيا وكأنّها على مشارف الاستسلام، وأنّ "السيطرة على كييف في ثلاثة أيام"، وفق موسكو، باتت حقيقةً أكيدة. غير أنّ ما جرى في ذلك الحين، هو نجاح أوكرانيا في مماطلتها عبر المفاوضات لتتراجع القوات الروسية عن العاصمة، ثم تنجح أوكرانيا بهجومها المضادّ في سبتمبر/أيلول 2022، مستعيدةً آلاف الكيلومترات المُربَّعة من أراضيها، في الشمال الشرقي والجنوب.
خُدع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمرّة الثانية. في المرّة الأولى في عام 2022، ظنّ أنّ أوكرانيا خضعت، لكنّ العكس حصل. وفي عام 2024، تكرّر الأمر. الفارق أنّه في عام 2022، كان الجيش الأوكراني يقاتل على أرضه، أمّا في العام الحالي، فإنّ توغله في الأراضي الروسية، من شأنه أن يشرع الأبواب أمام أمرين: إمّا أن توجّه روسيا ضربةً نوويةً لأوكرانيا، مع ما سيستتبع ذلك من صراع عالمي، أو قبول فلاديمير بوتين بالتفاوض. صحيح أنّ شخصية بوتين لا تقبل التفاوض إلا بشروطها، لكنّ وجود قوات غير روسية في أرضٍ روسية للمرّة الأولى منذ أيام ستالين، من شأنه دفع ساكن الكرملين إلى التفكير في ما إذا كان الوقت ملائماً لقول الجيش إنّ لا أرض خلف كورسك.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".