بأشياء بسيطة يتحدّث عن العالم

20 يوليو 2023

(لؤي كيالي)

+ الخط -

بعد الفجر بنصف ساعة، شحّ الهواء في البيت. هو لا يعرف لماذا يشحّ الهواء في هذه الأيام، هل من ارتفاع المباني الخرسانية حوله أم من أشياء أخرى، هو لا يطلُب هواءً جميلا وخضرة ووجها حسنا، هو يريد فقط أن يتنفّس مثل نباتات الظلّ مع قدر قليل جدا من الشمس الليّنة وقليلٍ من الماء، كان قد خرج كي يتنفّس. بعد الفجر أنعشه الهواء الذي كان شحيحا منذ ساعتين، وهذا كان منتهى طلبه، جلس على حجرٍ وتأمّل طيبة الهواء، الهواء فقط، لم يكن يطلب أي شيءٍ غير الهواء كي يسعَد بروح صافية.

الإنسان في الحقيقة بسيط جدا، فمن هم الذين يعقّدون عليه المشهد؟ جلس على الحجر في تلك اللحظات التي تنقشع فيها كثافة الليل، ويحل النور الخفيف في حياء، تمنّى أن تطيب النسمة دون تأمل ودون أن يعكر مزاجه بفكرة ما، ولكن "توك توك" هادئ في تلك اللحظات عبر وبداخله امرأة فوق ركبتيها طشت ألومنيوم به أشياء بسيطة لبيعها في السوق، وغالبا تكون هذه الأشياء هي الجبن أو الخضروات أو البيض، كانت المرأة محشورةً حشرا مع بقية بضاعتها وتضحك ومبسوطة في هذه النسمة المباغتة، عرف أنه على مقربة من سوق خضار.

بعد دقائق، تدفقت "التكاتك"، وبالهيئة نفسها تقريبا في حشر البضاعة وبنوعية النسوة البسيطات بزعابيطهن السوداء، وعلى حجورهن الطشوت الألومنيوم، حتى وصل عدد "التكاتك" إلى أكثر من عشرين، والهواء المنعش نفسه، والظلمة الخفيفة نفسها، وبداية النور نفسه يزحف بخفّة متناهية على ظلمة آخر الليل في شبه حياء وأدب، والضحكات نفسها من وجوه النسوة كما هي، فما هذا الفرح المباغت في آخر هذا الليل؟

كان المشهد بسيطا ومركّبا عن الأسرة والدخل والإنفاق والأم بمعناها الصالح والتربية والميزانية بلا تقعّر أو غموض، تلك الأشياء التي أرهقت أساتذة في الاقتصاد من لندن حتى الهند والصين، لخّصتها امرأة على ركبتيها طشت ألومنيوم ومحشورة في سعادة وبساطة إلى السوق في "توك توك" يسوقه شابُّ بعد انقشاع أنصاف ظلمة الليل.

هل الفكرة البسيطة محيّرة فعلا، وهل الأشياء البسيطة كالهواء مدهشة، وهل هناك أكثر بساطة من الماء أو التراب، أو البدوي وهو يفرح راقصا بقدوم الأمطار وزوجته أمام الفرن، وتفرح الكائنات بعد المطر، فيمشي البدوي فرحانا ما بين خطوط الطماطم التي كانت من لحظات عطشانة، وتفرح نجمة هناك، وتعجن البدويّة الحنّاء فرحا بالأمطار وبقدوم الليل، وتطلّ من أمام الباب لزوجها المحني بظهره ما بين خطوط الطماطم وهو يتحايل على سراسيب الماء ما بين النباتات، وصبي فقير هناك وقد صبغ شعره "بالأوكسجين"، فرِحا بمهنته الجديدة وهو يركب الحصان في رابع أيام العيد ويغنّي على الأسفلت.

طبيبٌ بيطري بالمعاش يفتح باب مطبعته صباحا، وكنت قد عرفته ربع ساعة فقط من أكثر من خمس وأربعين سنة في جامعة أسيوط، وهو يعد الشاي فوق "سخّان سلك"، كما كان شائعا في أيام الطلبة في حي الوليدية بأسيوط قبل انتفاضة الطلبة، وقبل أيام من موت الشاعر محمود حسن إسماعيل من قرية النخيلة. والآن قد نسيني تماما ونسيته تماما إلا ذلك ربع الساعة، الوجوه تتلاقى من "تحت الضرس"، وتظلّ ذاكرة الأشياء البسيطة كما هي في القلب.

هل كل التواريخ ننساها وتبقى تلك اللفتات البسيطة مركونةً في القلب، كذلك المراكبي العجوز من قرية النخيلة بعدما تعب من البحر وكبر وصار بوّابا على عمارةٍ سكنّاها في أسيوط أيام انتفاضة الطلبة، وكان يحكي لي عن المراكب والغناء. ويوم مات محمود حسن إسماعيل وهو يشرب الشاي، قلت له الخبر، فاعتدل وقال: "الله يرحمه كان من ناس ملاح".

هل كل التواريخ هكذا تُنسى مثل هؤلاء العساكر الذين يموتون في أم درمان أو الخرطوم أو دارفور، فكيف كانت قلوبهم ساعة موتهم في كل تلك الأطماع؟ ورغم كل تلك المذابح، الأرض بسيطة جدا، والنباتات بسيطة أيضا، والرزق بسيطٌ تحت جناح العدالة، لو كان هناك ذلك الجناح.

الأرض مكانها والجبال مكانها والأنهار مكانها، وكلها كشهود علينا، حتى المراكب البسيطة وكأنها خائفة على أشياء مبهمة، علها الريح، أو المراقبة أو البحث عن الرزق، كذلك الصعيدي العجوز الذي ترك بلدته النخيلة بعدما كبُر وابتلاه المرض وعمل بوّابا في أسيوط مخافة على الرزق.