انتخابات استمرار الأزمة في لبنان
أرست نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية التي جرت في 15 مايو/ أيار الحالي مشهداً جديداً يتوقع فيه عديدون أن يؤسس لمرحلة جديدة من الأزمة اللبنانية على المستوى الداخلي، وذلك في ظل إفراز هذه الانتخابات ما يمكن أن يطلق عليه "برلمانا معلّقا"، بعد فشل الطرفين الأساسيين المتنافسين في حسم الأغلبية البرلمانية التي تؤهل أيا منهما لحسم الاستحقاقات الدستورية المهمّة المقبلة، كانتخاب رئيس البرلمان ونائبه، ورئيس للجمهورية، ورئيس للحكومة، إذ تؤشّر هذه النتائج بوضوح إلى أن البرلمان بصيغته الحالية، سيكون، في مرحلة أولى على الأقل، مشتتاً ومنقسماً من دون أكثريةٍ واضحة، يطغى عليه انقسام عمودي شبيه بانقسام القوى اللبنانية إلى 8 آذار و14 آذار، الأمر الذي يزيد من شلل البلاد والمؤسسات، في ظل أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة منذ أكثر من سنتين.
عمليا، الاستحقاق الخاص بانتخاب رئيس البرلمان هو أول هذه المعارك التي يمكن أن تعطي ملمحا عاما عن توجهات أعضاء البرلمان وكتله في ظل التشكيلة الجديدة، فإعادة انتخاب نبيه بري الذي يشغل منصب رئيس البرلمان منذ 1992، أصبح إشكالية محرجة لعديد من أحزاب وقوى معارضة وقوى التغيير الفائزة في الانتخابات، والرافضة التجديد للرجل، ويضعها هذا الاستحقاق أمام معضلة أساسية أنه ليس أمامها سوى النواب المنضوين إمّا في حركة أمل أو في حزب الله، لاختيار رئيس للبرلمان، على اعتبار أن المنصب عُرفاً من المكوّن الشيعي. وبالتالي، قطع حصول "الثنائي الشيعي" على كل المقاعد الشيعية في البرلمان الطريق على وصول أي شخص من خارج المنظومة إلى رئاسة البرلمان، ما يفتح المجال واسعاً لإعادة انتخاب نبيه برّي، وهو ما يضع القوى التغييرية والقوى السياسية الأخرى التي تختلف مع "الثنائي الشيعي" في مأزق حيال ذلك سيضطرّها، في سبيل إنجاز هذا الاستحقاق، إلى الدخول في مشاورات ومفاوضات صعبة للوصول إلى التوافقين، السياسي والنيابي.
الوضع في لبنان لا يحتمل استمرار حكومة تصريف الأعمال بمهامها فترات طويلة، قد يرافقها حصول فراغ رئاسي
يتعلق الاستحقاق الثاني بالمشاورات النيابية لتكليف رئيس للحكومة، ومن ثم تشكيل الحكومة، وهو استحقاق أكثر صعوبةً وتعقيداً من الاستحقاق الأول، وقد يستغرق إنجازه وقتاً أطول من إنجاز الاستحقاق الأول، والأمر في ذلك يعود إلى سببين:
الأول صعوبة إيجاد إجماع على شخصية سنّية واحدة تنال الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس النيابي لتسميتها من رئيس الجمهورية، بعد إجراء الاستشارات النيابية الملزمة، على اعتبار أن البرلمان يشهد انقساماً عمودياً، فلا حزب الله تمكّن من المحافظة عليها مع حلفائه، ولا المحور "السيادي" الذي حقق بمجمله مقاعد إضافية بإمكانه القول إنّه يملك الأكثرية، خصوصاً أن ممثلي "ثورة أكتوبر" يجاهرون بأنهم سيشكّلون طرفاً مستقلاً قائماً بذاته.
ويرتبط الثاني بالخلاف الذي سبق هذه المشاورات بشأن نوع الحكومة وشكلها، وذلك فـي ظل تمسّك حزب الله بتشكيل حكومة توافق "حكومة وحدة وطنية"، تجمع كل الأطراف، ورفضه تشكيل حكومة جديدة من ائتلاف نيابي مكوّن من الأكثرية الجديدة، لا يكون هو فيها، وبالشروط التي تناسبه، كما أنّه لن يقبل بأن يشكّل هو من خلال أكثريةٍ يمكن أن يتحصّل عليها، حكومة من دونهم، لأنّه يعرف أنّ أيّ حكومةٍ لا تحصل على أكبر قدر من التغطية لسياسته يُمكن وصفها بأنّها "حكومة حزب الله". وبالتالي، سوف تفشل، في حين ينادي المعارضون لحزب الله بـ "حكومة أكثرية" تحكم، في حين يذهب الطرف الآخر إلى المعارضة، الأمر الذي يضع تشكيل الحكومة أمام مسار طويل سيؤخر تشكيلها، ويجعلها تدخل في بازار المحاصصات أو الضغوط، ما سينعكس على إمكانية إيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية والحياتية التي تعصف بالبلد، خصوصاً أن الوضع في لبنان لا يحتمل استمرار حكومة تصريف الأعمال بمهامها فترات طويلة، قد يرافقها حصول فراغ رئاسي، نتيجة عدم انتخاب رئيس جمهورية جديد خلفاً للرئيس عون الذي تنتهي ولايته دستورياً في 31 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
مخاوف من دخول لبنان في مرحلة شلل سياسي، أو "تقطيع الوقت" في أحسن الأحوال، خلال الأشهر المقبلة، في تكرار للتجربة العراقية
يتعلق الاستحقاق الثالث بانتخاب رئيس للجمهورية، الذي يتطلب انتخابه توافقاً سياسياً غير متوفر في الظروف الحالية، وتوافقاً نيابياً يشكله 86 نائباً، غير متوفر أيضاً، الأمر الذي قد يدخل موضوع انتخاب رئيس الجمهورية في سجال ومناكفات سياسية قد تطول، في استحضار للنموذج العراقي الذي ما زالت القوى السياسية تتصارع فيه منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، وهي ظاهرة قابلة للتكرار بقوة في لبنان بعد الانتخابات البرلمانية.
ختاماً، لا يمكن، في ظل النتائج التي أفرزتها الانتخابات اللبنانية، لأي فريق سياسي أن يتفرّد بالسلطة أو يستأثر بها، بل هو مضطرٌّ لعقد تحالفات وتفاهمات واسعة من أجل ذلك، وهو أمرٌ ليس يسيراً في الوقت الحالي. لذلك من يعتقد أنّ الخلاص اللبناني آتٍ في القريب العاجل واهم، فصحيح أنّ نتائج الانتخابات أعطت إشارة أنّ للرفض الشعبي للواقع السياسي قدرة على التغيير، لكنّ التغيير يحتاج مدّة ممتدة، كما أنّ نتائج الانتخابات لم تُحدِث انقلاباً حقيقياً في توازنات اللعبة السياسية اللبنانية المحكومة بعناصر مذهبية ودينية، قائمة على المحاصصة تحت عناوين "الديمقراطية التوافقية" و"الميثاقية"، الأمر الذي قد يثير مخاوف من دخول لبنان في مرحلة شلل سياسي، أو "تقطيع الوقت" في أحسن الأحوال، خلال الأشهر المقبلة، في تكرار للتجربة العراقية.