الموقف المصري من الحرب الروسية الأوكرانية

18 مايو 2022
+ الخط -

"مع روسيا لكن ضد الحرب على أوكرانيا". .. تعبّر هذه الجملة عن موقف النظام المصري من الأزمة الأوكرانية الروسية، والذي كان ضعيفا في إدانة الغزو الروسي، بل لم يكن واضحا، وحاول إمساك العصا من المنتصف، ولعل هذا ما حدا بالسفارة الأميركية في القاهرة إلى نشر بيان على موقعها في الأول من مارس/ آذار، وهو بيانٌ صادرٌ عن سفراء مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في القاهرة؛ بخصوص العدوان الروسي على أوكرانيا، بعنوان "سفراء مجموعة الدول السبع الصناعية: يتعين علينا أن نقف بجوار أوكرانيا"، يطالب القاهرة بالانحياز إلى الشرعية الدولية؛ القائمة على مبادئ الأمم المتحدة، وتقديم إدانة [واضحة] للعدوان الروسي على أوكرانيا. وذكًر البيان القاهرة بأنها ليست بعيدة عن الضرر الناجم عن ذلك الاعتداء الروسي، لأن آثاره ستتخطى أوروبا، وستصل إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد فهمت مصر تلك الرسالة، وصوتت في اليوم التالي على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها قبل التصويت، وحتى لا تُغضب الجانب الروسي، شرحت له دوافع تصويتها الناتج من الضغوط التي مورست عليها وأسبابه. على أن للموقف المصري من الحرب الروسية دوافعه، فهناك علاقات متشابكة على مستويات متعدّدة تربط مصر مع روسيا. وروسيا بالنسبة لمصر هي حليف استراتيجي يظهر خلال الأزمات مع الولايات المتحدة، لكن هذا لا يلغي حقيقة أن الولايات المتحدة هي الحليف الرئيسي لمصر، وقد تبلور ذلك بعد أن تحوّلت مصر من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973، وقد عبّر الرئيس أنور السادات آنذاك أن 99% من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة، وهذا هو السبب الرئيس لتحوّله إلى المعسكر الغربي. وعلى الرغم من ذلك، ظلت العلاقات بين مصر وروسيا وطيدة وقوية، ولعبت روسيا دور الظهير لمصر إذا ما برزت أزمات مع الولايات المتحدة، خصوصا في الفترة الأخيرة فيما يتعلق بملفات حقوق الإنسان. ومنذ قدومه إلى السلطة في انقلاب عسكري عام 2013، يستخدم نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أساليب الحرب الباردة وأدواتها التي كانت تتبعها مصر في تلك الفترة، من أجل محاولة الحفاظ على مسافة واحدة من الجميع، لكن وضع مصر الإقليمي الحالي، وكذلك تطوّرات الأحداث علي الساحتين الإقليمية والدولية يجعل من تنفيذ هذه السياسة أمرًا محفوفا بالمخاطر، فقد يغضب الأطراف المختلفة من القاهرة، وقد يعطل صفقاتٍ عديدة، خصوصا صفقات الأسلحة، وهو ما يمثل ضغطا كبيرا على القاهرة.

استطاعت القاهرة الاتفاق مع الجانب الروسي على عقد صفقة المقاتلات الروسية "سوخوي 35"، والتي كانت قد عُقدت مبدئياً عام 2018

كما هو معروف، تسليح الجيش المصري أميركي، وهذا مرتبط بالمعونة الأميركية، وقيمتها 1.3 مليار يورو، بدأت الولايات المتحدة دفعها لمصر بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979 وهي جزء مادي وآخر متعلق بالتسليح. لكن القول إن سلاح الجيش المصري كله أميركي لا يعني موافقة الولايات المتحدة على إعطاء جميع الأسلحة للقاهرة، فهناك أسلحة في مقدمتها طائرات F15 رفضت الولايات المتحدة الموافقة على إعطائها لمصر، ما جعل القاهرة تفكر جليا في تنويع مصادر السلاح، وهو النهج الذي انتهجه نظام السيسي بعقد صفقات مختلفة مع روسيا. وكان الهدف من عملية شراء أسلحة من روسيا رغبة مصرية في إعادة بناء الثقة على مختلف الأصعدة، وليس فقط في المجالات التي تظهر العلاقات معها تطورا واستقرارا في المستقبل، كملف مشروع الضبعة النووية وعودة السياحة والطيران الروسيين، خصوصا في ظل التهديدات الأميركية لمصر وتحذيراتها بعدم التوسّع في شراء الأسلحة الروسية، وهو الملف الذي يثير قلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغضبه، لا سيما مع توسّع مصر في شراء النظائر الأوروبية. وقد استطاعت القاهرة الاتفاق مع الجانب الروسي على عقد صفقة المقاتلات الروسية "سوخوي 35"، والتي كانت قد عُقدت مبدئياً عام 2018، ووصلت منها فقط خمس طائرات إلى مصر، وتم تدريب أقل من عشرة طيارين مصريين عليها في العامين الماضيين. وتضمّن الاتفاق الإسراع بوصول 12 طائرة خلال العام 2022، ثم بحث وصول 12 أخرى خلال 2023، ليكون الإجمالي 24 طائرة، بالإضافة إلى الخمس المسلّمة قبل ذلك، وهو ما يعدّ رقماً كبيراً بالنسبة لمبيعات المقاتلة الروسية التي تواجه تضييقاً شديداً من الولايات المتحدة منذ أعوام، وتجد صعوبةً في الوصول إلى الأسواق العالمية بسبب تهديدات واشنطن. في الوقت ذاته، طلبت مصر قبل عامين من روسيا إمدادها بمزيد من الصواريخ الجوية قصيرة ومتوسطة المدى التي تستخدم في المعارك قريبة المدى. وهذان النوعان لا تشتريهما مصر من الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية، وسبق أن تلقت بالفعل نحو 600 منها خلال العام الماضي.

السياح الروس والأوكرانيون من أكثر السياح الذين يزورون مصر، حيث يمثلون ثلث إجمالي الزوار السنويين لمصر

هذه التوازنات العسكرية تمثل أحد الجوانب الحاكمة لطبيعة العلاقة بين مصر وروسيا، وبالتالي خسارتها تعني خسارة شريك استراتيجي مثّل وما زال يمثل للقاهرة ملاذا وظهيرا عند تأزّم العلاقات مع واشنطن. لكن واشنطن في خطوة جديدة منها، وفي إطار محاصرة موسكو، غيرت موقفها الرافض لتسليم مصر طائرات F15، ولهذا الموقف دوافعه من حيث محاولات الولايات المتحدة إبعاد مصر عن روسيا، وأيضا وضع مصر الجديد في إطار التحالفات الجديدة التي تجري صياغتها في المنطقة، والتي تشمل مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل في مواجهة إيران، وفي هذه النقطة بالتحديد، قد يكون التقارب المصري الإسرائيلي لعب دورا في تغيير موقف واشنطن بخصوص هذه الطائرات.
حينما قام الرئيس المصري الحالي بانقلابه العسكري لإطاحة الرئيس المنتخب محمد مرسي واجه مواقف دولية عديدة رافضة للانقلاب، لكن الرئيس الروسي بوتين كان أحد الداعمين له، وجرت ترجمة ذلك في زيارة السيسي موسكو حينما كان وزيرا للدفاع واستقبله بوتين بنفسه. على أن هذا الدعم السياسي الذي قدّمه بوتين لم يكن بدون مقابل، فقد حقق من خلاله مكاسب سياسية واقتصادية، منها تعاقد مصر على قرض روسي لإنشاء محطة الضبعة النووية، قيمته 25 مليار دولار، في مدة لا تزيد عن 15 سنة، إضافة إلى منح الشركات الروسية حق الاستثمار في منطقة قناة السويس اللوجستية.
كما أن السياح الروس والأوكرانيين من أكثر السياح الذين يزورون مصر، حيث يمثلون ثلث إجمالي الزوار السنويين لمصر، وهذا يمثل دعما كبيرا لقطاع السياحة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. ومعروف أن قطاعي السياحة وقناة السويس من أهم القطاعات التي تساهم في الدخل القومي المصري، وبالتالي خسارة السائح الروسي معناها خسارة أحد الروافد المهمة للعملة الأجنبية ولقطاع حيوي مثل قطاع السياحة. في المقابل، مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، تحديداً من روسيا وأوكرانيا، لذلك، تقوم الدولة بإدارة قضية القمح بحساسية مفرطة لما له من تأثير مباشر على استقرار النظام. فمن إجمالي 13 مليون طن من القمح استوردتها مصر خلال عام السوق 2020-2021، كانت روسيا أكبر مورّد للبلاد حيث ورّدت 7.56 ملايين طن، تليها أوكرانيا بـ 1.9 مليون طن، في حين كانت واردات القمح من الاتحاد الأوروبي أقل من أربعمائة ألف طن. ومن هنا يفهم موقف النظام المصري من الأزمة الأوكرانية.

القاهرة لا تزال في حاجة إلى دعم غربي في مفاوضات سد النهضة أو إعادة طرح الملف مجدّدا على المنظمات الدولية

على مستوى السياسة الخارجية، تمثل أزمة سد النهضة التي ما زالت تشغل الرأي العام المصري أحد الملفات التي تسعى القاهرة إلى كسب الدعم الروسي فيها، فبالرغم من إعلان أديس أبابا أخيرا تشغيل السد جزئيا، فإن القاهرة لا تزال في حاجة إلى دعم غربي في المفاوضات أو إعادة طرح الملف مجدّدا على المنظمات الدولية، بعد أن بدت موسكو أقلّ تحمسا لمصر في هذا الشأن. ففي صيف العام الماضي، عرقلت روسيا جهود مصر والسودان في جلسة لمجلس الأمن بشأن السد، ولاحقا أبرمت اتفاقا عسكريا مع إثيوبيا، وقد أثار هذا الموقف تساؤلاتٍ حينها بشأن مدى قدرة مصر على الاعتماد على مواقف روسيا في دعم قضاياها المصيرية.
تتقاطع أوراق النظام المصري مع النظام الروسي فيما يتعلق بالملف الليبي، لكن التوافق الأهم يبرز من الموقف من النظام السوري، فالدعم الروسي المقدّم لبشار الأسد منذ اللحظة الأولى معروف، والذي بدونه ما كان للأسد أن يبقى في السلطة. كما أن كلا من القاهرة وأبو ظبي تدعمان عودة النظام السوري إلي جامعة الدول العربية، وهو ما يفسّر سبب زيارة بشار الأسد أبوظبي في مارس/ آذار الماضي، في أول زيارة خارجية له منذ اندلاع الأزمة السورية. في الوقت نفسه، تلقي التحالفات الجديدة في المنطقة بين القاهرة والرياض وأبو ظبي وتل أبيب بظلالها على الأزمة السورية، فإسرائيل أيضا تتقاطع مصالحها مع روسيا داخل سورية. فإسرائيل تنسق مع روسيا قبل شن أي هجمات في العمق السوري، أو تنفيذ أي عمل عسكري على الأراضي السورية، وبالتالي هناك نوع من التفاهمات والتوافقات بين روسيا وإسرائيل في هذا الملف بالتحديد.
تشكل هذه الأسباب، في نظرة شاملة، الدوافع التي تحكم موقف القاهرة من الحرب الروسية علي أوكرانيا، فالقاهرة تراهن على كسب ودّ المعسكرين الغربي والروسي معا، لكن هذه السياسة يمكن أن تؤدّي إلى خسارتهما عندما ينفض العالم الغبار الذي تراكم بسبب أزمة أوكرانيا، وتحين لحظات الثواب والعقاب.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.