الموت قهراً في غزّة
رحل "العم علي" في خيمة، وهو لم يكن يتوقّع، حتّى في أسوأ كوابيسه، أن يموت في هذا المكان الغريب، المستجدِّ والموحش، حيث القحط والبؤس، فالبحر من أمامه، والرمال الصفراء من خلفه، وتخفيها أوتادُ خيامٍ ممتدَّةٍ في مرمى البصر، فهو أبداً لم يرسم بريشته إلّا لوحاتٍ لجمال الطبيعة كما خلقها باريها، وليس كما شوّهتها وحشيةُ الإنسان حين دكّها بالقنابل والصواريخ، وبآلات الموت والدمار كلّها.
فتحتُ عينَيَّ على لوحات "العم علي" وهي مُعلّقة على جدران بيتنا القديم، البيت الذي أمضيتُ فيه طفولتي، وشطراً من سنيّ شبابي، حتّى انتقلت إلى بيت الزوجية. لذلك، عاش خيالي مع كلّ لوحة من لوحاته، وكنت أعتقد أنّ أبي قد ابتاعها من أحد محالّ بيع التحف والهدايا، وإن كان توقيع "العم علي" موجوداً في أسفل يسار كلّ لوحة، فلم أكن أتوقّع أنّ هذه اللوحات الرائعة قد رسمها زوج عمَّتي، ذلك الرجل الطويل النحيل، الذي يتحدّث بصوت مُرتفِع، ويتصرّف بعصبيةٍ لا تُخفي طيبة قلب، ويجذبك وهو يصف لك التفاصيل كلّها، وكأنّك عشتها معه كلّ لحظة، مثل محطّات انتقاله من ليبيا، حيث عمل مُدرِّساً للتربية الفنّية، إلى قطَر حيث عمل في المهنة نفسها، ولكنّه شعر وقتها بأنّه يُحقّق شيئاً ملموساً في الأرض بتعليمه جيلاً من الطلّاب يهوون الفنّ فعلاً، ويتلقّون مبادئه وأصوله على يديه، وهو خرّيجُ جامعةٍ مصرية عريقة، في مطلع سبعينيّات القرن الماضي.
سرحت بواحدةٍ من لوحات "العم علي"، كان أبي يُعلّقها في مدخل بيتنا، فيراها الضيف بُمجرَّد أن تطأ قدماه الباب، وكانت تحفةً فنّيةً لبيت جميل تحيط به حديقةٌ وارفةُ الأشجار، وتُظلّل هذه الحديقة بركةُ ماء صافٍ، وهناك مقعدٌ فارغٌ أمام البركة، ويفضي المقعدُ إلى مدخل البيت الجميل ذي اللون الأحمر القرميدي.
عشتُ بخيالي مع هذا البيت الجميل، وشعرتُ كم هو رائع ومرهفٌ هذا الفنّان الذي وضع تخيّلاً لحياة بسيطة يتمنّاها كلّ إنسان لا يرغب بأكثر من الهدوء والسلام، وظلّ حُلمي يراودني بأنّني سأعيش في مثل هذا البيت ذات يوم، حتّى مضى قطار العمر، واكتشفت أنّ هذا البيت المرسوم هو البيت الذي حلم به "العم علي" لنفسه، واستطاع أن يمتلكه في شمال غزّة، حيث تقاعد من عمله في قًطر، وقرّر العودةَ إلى مسقط رأسه، وهناك أقام بيتاً جميلاً يشبه البيت الذي رسمه في لوحة دارنا العتيقة، وحوله تلك الحديقة التي تضمّ جميع أنواع الفاكهة، إضافة لأشجار من الورد الجوري ذي الورق الأحمر المخملي، والرائحة المُنعِشة، والتي تصافح أنفك بمُجرّد أن تدلف من باب البيت الرئيس، الذي يقودك نحو الحديقة، فتغرق داخل الأشجار المُلتفّة مع بعضها كغابةٍ صغيرةٍ، وتستمرَّ في السير حتّى تصلَ إلى مدخل البيت، حيث تجد باباً يُفضي إلى درجات قليلة تصعدَها وتجد نفسَك في قاعةِ ضيافةٍ زاخرةٍ جدرانها بلوحات جميلة رسمها "العم علي".
مرّ وقت طويل مذ عرفت أنّ صاحب هذه الريشة هو زوج عمَّتي، ومرَّ وقتٌ طويلٌ حتّى كبرت الأشجار وأصبحت ونيس "العم علي" وجليسه، حيث يقضي جلّ وقته حين فرغ البيت من الأولاد الذين تفرّقوا في بيوتهم، ولكنّه كان يبدو سعيداً وهو يُحدِّثكَ عن شجرة التين وأمراضها، وعن شجرة الرّمان وتأخّر إثمارها، ولا يَكلُّ ولا يَملُّ وهو يُحدِّثكَ كم من الوقت يمضي وهو يُنظّف أرضيةَ الحديقةِ من الأوراق الجافَّة، لكي لا يبقى فيها إلّا كلّ ما يضج بالحياة.
في الأيّام الأولى من هذه الحرب الطاحنة، دكّت آلة الموت بيتَ "العم علي" وفرّ منه مع زوجته بمُعجِزَةٍ، لكنّه رآه من بعيد وهو ينهار قبالته مثل قطعة "بسكويت" هرستها قدم طفلٍ عابث، وغادر للمرّة الأخيرة المكان متوجّهاً إلى جنوب القطاع، ليحطّ به الرحال في غربةٍ جديدةٍ، حيث لا شجرَ ولا ثمرَ، ولكن ذكريات أليمة، ولجوء ونزوح يُدميان القلب والروح، حتّى فاضت تلك الروح إلى بارئها بعيداً عن الحُلم، وفوق أرضِ واقعٍ يقتل الأرواح ببطء... ولكنْ، يقتلها قهراً.