"سَرْمَدان" والبحث عن الجمال المفقود

31 مايو 2024
+ الخط -

"اسمي نرجس، وقد كنت موجودة... أقيم في إحدى المَصحّات العقلية الكبرى، حيث أطيل التأمّل من النافذة، لا أعرف بالتحديد في أيّ مدينة أنا ولا في أيّ عام. حملتُ أمل الخروج لسنوات طويلة لكنّهم قالوا لي إنّ عليّ ملازمة المَصحّة حتَّى أُشفى، الأساطير كلّها في الوجود البشري هي من صنع المجانين، أنا نرجس، في ملفّي كَتب الأطبّاء إنّني مُصابة باضطراب الهُويّة الجمالية الذي يعتقد البشر بأنّه مرض". بهذه الافتتاحية، المتأخّرة حتَّى نهاية الرواية، تلخّص جمانة مصطفى ما يقارب 270 صفحة من رؤيتها للجمال كما ينبغي أن يكون عليه في هذا العالم، تُحاول من خلالها أن تفتح أبواب السرد والشعر والخيال لعودة الأساطير، الجميلة والنادرة والخيّرة، إلى عالمٍ يشنق نفسه بمشنقة واقع القُبح، حيث حتَّى الخيال (المستوى الأرقى لصنع الجمال) بات يستخدم لنسف ذاته، ولنسف كلّ أسس الجمال المادّية والمعرفية والنفسية.

تستدعي جمانة مصطفى في روايتها الأولى "سَرْمَدان: الغول والعنقاء والخلّ الوفي" (دار أثر، الدمّام، 2024)، بعد خمس مجموعات شعرية، الخرافات التي يدرك البشر أنّها غير موجودة، لكنّ جمانة تأتي بها إلينا لتعيش معنا في سلامٍ في اللامكان، أو في مكانٍ يقع بين "الوجود والعدم"، حيث لا مكان للكذب ولا لإنكار ما نراه ولا سعي إلى إثبات ما نراه، فنحن في هذا اللامكان نرى من خلال عيني "نرجس"/ جمانة وقلبها، وبالأصح، نرى ما نراه عبر خيالها الذي يستدعي كلّ الأساطير والخرافات التي عرفها التاريخ العربي، ونَبَذَها تحت اسم المستحيلات مرّة، ومرّة أخرى؛ عبر استبدال أساطير أيديولوجية بها، تحكم بالرجم على من ينكر وجود تلك المستحيلات.

لا تستدعي جمانة مصطفى أساطيرها؛ الغول والعنقاء والخلّ الوفي، والجنّ والماعز الخضراء، وعرّاف نجد والصنم عوض الدهر، والقرود (نسانيس من أنصاف البشر كما سمّوا في الرواية)، وحيوانات منقرضة، وأخرى كان لها حضور في الشعر العربي القديم، وسرجنة الأنسية التي استحقت العيش في بلاد الأساطير لأنّها امرأة خارقة، كما تصفها الراوية، لا تستدعي الراوية شخصياتها الخرافية هذه لمُجرّد اللعب معها في أوقات الفراغ، بل هي تريد إحياءها في بلاد المشرق لاستعادة كلّ الجمال الذي فقدته هذه البلاد، نتيجة الحروب وشرور السياسة وتمدّد الموت المجّاني وخطاب الكراهية، هي تريد إحياءها لنستعيد جميعاً معها، قيم الخير والجمال والحقّ، والحبّ غير المشروط، والبراءة والطيبة، في أجمل استدعاء للذاكرة الأسطورية الجمعية العربية، وللحكايات المروّية، التي كانت الجدّات ينيّمن أحفادهن وهنّ يروينها لهم.

كما لو أنّ مكتبة تنفتح أمامنا ونحن نشدّ الرحال للانطلاق في رحلة سَرْمَدان مع "نرجس" أو مع جمانة مصطفى، التي قد تفاجئ قارئها بمخزون كبير تملكه من كنوز الأساطير، وأمكنة نشوئها، وربطها بالتاريخ العربي واللهجات العربية القديمة والحديثة، والشعر العربي، والوعي والإدراك الجمعي العربي، لكنّ هذا المخزون لا تقدّمه جمانة باستسهال، فهي تريد لقارئها أن يذهب معها في رحلة من المتعة والسعادة، ويكتشف معها هذه الكنوز وهو يلتفّ يميناً وشمالاً لالتقاط كلّ التفاصيل التي تحيط به، في هذه الرحلة بالغة الجمال والغنى. وقد يحتاج للعودة أحياناً إلى صفحات سابقة ليتمكّن من ربط العلاقات التي تنشأ أثناء رحلة السرد بين المستحيلات تلك، وليتمكّن من رؤية عالم الخير والجمال الذي تعيش فيه هذه المستحيلات.

لكن، هل تريدنا جمانة مصطفى أن نُصدّق أنّ الجمال والخير، اللذين نحلم بهما باتا من عوالم المستحيلات والأساطير، وأنّ من يراهما وسط شرور الواقع مصاب بمرض "اضطراب الهُويّة الجمالية"، ويحتاج للعيش في مَصحّة نفسية على طريقة "نرجس" الراوية ونزيلة سَرْمَدان؟... في ظنّي أنّ جمانة لا تريد هذا، ولا يشغلها هذا الأمر، رغم الإعلان عن ذلك في نهاية الرواية، هي أكثر ميلاً لأخذنا معها في رحلتها السَرْمَدانية، وربما ترسل دعوة لكلّ منّا للبحث عن أساطير تخصّه وحده، يمكنه من خلالها التقاط القيم التي يكاد يفقدها في هذا العالم، هي تدعونا معها لاستعادة أحلام اليقظة، حكايات جدّاتنا، عالم الطفولة السحري والبريء، تدعونا لاستعادة الخيال والاستناد إليه طريقةً من طرق مقاومة القبح والشرور، هي تدعونا إلى البحث عن سَرْمَدان كلّ منّا، ليس في المَصحّات، ولكن، في الخيال الذي ينتج الشعر والفنون والأساطير النادرة، في العالم السرمدي، حيث تنشأ الفنون القادرة على تغيير اضطرابات القُبح التي تسيطر على عالمنا.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.