المغرب .. بيروقراطية اللجان
ثمّة مقولة تختزل النموذج البيروقراطي للدولة اليعقوبية القائمة على المركزية الشديدة، تقول إنّ حلّ أيّ مشكلة يبدأ من تأسيس لجنة لدراستها في انتظار أن تأتي بتوصية تأسيس لجان فرعية لحلها، وأخرى لمتابعة تنفيذ الحل. وفي النهاية، ينسى الناس المشكلة الأصلية، ويتيهون في تفاصيل اختصاصات اللجان المتداخلة وتقاريرها المتضاربة، إلى أن يسند الأمر إلى لجنة جديدة لحلّ المشكلات القائمة، وهكذا يصبح تدبير الدولة موكولاً إلى دوامة اللجان التي لا تنتهي. والمغرب من الدول التي ابتليت بوباء هذه البيروقراطية ورثتها عن فترة الاستعمار الفرنسي، وتم تركيزها وتضخيم آلتها من خلال بنية "المخزن" التقليدية التي تجسد مركزية القرار داخل البناء المؤسّساتي المغربي. وهكذا أصبح للمغرب نموذجه اليعقوبي القائم علي مفهوم الدولة الوطنية المركزية التي فشلت في تحقيق كلّ الشعارات التحديثية الرامية إلى إقامة دولة مركزية قوية مستوحاة من النموذج اليعقوبي الذي تخلت عنه جلّ الدول الأوروبية، باستثناء موطن نشأته فرنسا.
سياق هذا الحديث يأتي في إطار النقاش الذي أثاره تقرير ما سمّيت "لجنة النموذج التنموي" وهي لجنة عينها ملك المغرب قبل سنتين، وأسند رئاستها إلى أحد وزراء الداخلية السابقين، وكلفها بالبحث عن "نموذج تنموي" جديد، يناسب بنية المغرب الحالية، بعدما فشلت كلّ النماذج التنموية التي تم تجريبها خلال العقود الستة الماضية، وهي عمر الدولة المغربية المستقلة. وبعد سنتين من العمل، يمكن اعتبارها اليوم بمثابة وقتٍ ضائع، انتهت اللجنة إلى صياغة تقريرٍ أغلب متنه تشخيص للوضع في المغرب لم يحمل الجديد بالنسبة لأغلب المغاربة، لأن ما جاء فيه من تشخيص سبق أن رصدته تقارير سابقة صدرت عن مؤسساتٍ رسميةٍ ودوليةٍ ومنظمات مدنيةٍ داخل المغرب وخارجه، أما البدائل التي أتى بها التقرير نفسه فقد صاغها في وعود لا تختلف كثيراً عن التي تعد بها الأحزاب السياسية في حملاتها الانتخابية، وسرعان ما تتخلّى عنها بمجرد وصولها إلى الحكومة، بدعوى أنّ البرنامج الحكومي ليس هو البرنامج الانتخابي، بما أنّ الأول، حتى يكون نافذاً، يجب أن يخضع لتعليمات الملك وتوجيهاته التي يراد لها دائماً أن تكون فوق اختيارات الأحزاب ومفروضة عليها، وبعيدة عن السياسة ومنغمسة فيها!
نوع جديد من البيروقراطية، إنّها بيروقراطية مسيسة، وهذا النوع من "التسييس البيروقراطي" ما زال يثير جدالاً في أدبيات السياسات الاقتصادية
وبدلاً من أن تساهم هذه اللجنة في حلّ مشكلة تعثر مشاريع التنمية في المغرب، أصبحت جزءا من المشكل عندما اقترحت تأسيس آلية، أي لجنة، لتتبع تنفيذ مقترحاتها التي سيلزم بتنفيذها الائتلاف الحكومي بعد استحقاقات هذا الصيف، وهو ما يطرح السؤال بشأن الجدوى من المشاركة في انتخاباتٍ ستأتي بأحزاب لتنفيذ تصور تنموي وضعته لجنة غير منتخبة، وهي من ستتولى متابعة تنفيذه، لتتحوّل إلى سلطة رقابة معنوية فوق المؤسسات المنتخبة بما فيها الحكومة والبرلمان والمجالس المحلية؟!
نحن أمام نوع جديد من البيروقراطية، إنّها بيروقراطية مسيسة، وهذا النوع من "التسييس البيروقراطي" ما زال يثير جدالاً في أدبيات السياسات الاقتصادية، بين من يرى فيه أداة فعالة لحسن الإدارة والقيادة، ومن يعتبره مناقضاً لقيم الديمقراطية، لأنّه يفتقد الشرعية الديمقراطية. فمفهوم "التسييس البيروقراطي" يرمي إلى استبدال الحياد البيروقراطي السلبي بإدخال الاعتبارات السياسية في إدارة الموارد البشرية والسلوك المباشر للموظفين العموميين، وفي الحالة المغربية، يصعب الحديث عن بلوغ هذه الدرجة من "التسييس البيروقراطي". وبالتالي، نحن هنا أمام ما يمكن أن نسميها "بيروقراطية اللجان والمجالس المسيسة" وهذه نجد لها نماذج كثيرة في المغرب، وفي مجالات متعددة، تغطي جميع مجالات الحياة، انطلاقاً من مجال الأسرة والاقتصاد ومحاربة الرشوة وإصلاح التعليم وانتهاء بلجنة إعداد نموذج تنموي يغطّي جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويمتد في الزمن حتى منتصف ثلاثينيات القرن الحالي!
أيّ تصور لإيجاد حلّ للمشكلات التي يعاني منها مغرب اليوم لن يجد له تطبيقاً على أرض الواقع، ما دامت هوة فقدان الثقة شاسعة ما بين الدولة وأغلبية المجتمع الصامتة
ابتلي المغرب بوباء البيروقراطية الفرنسية الموروثة عن إرث نادي اليعقوبيين، وهذا الوباء تعاني منه فرنسا نفسها التي جلبته إلى المغرب، إبّان فترة استعمارها لدول شمال أفريقيا، وقد رأينا كيف وجدت الدولة الفرنسية نفسها، في أثناء مواجهتها وباء كورونا، أمام هذا الشرّ المستوطن داخل بنيتها العميقة التي بدت عاجزة وغير فعالة. وحتى في فرنسا، حادت البيروقراطية عن المفهوم الإيجابي الذي نظّر له ماكس فيبر، لتتحول إلى بيروقراطية سلبية مقيتة، هي تلك التي نعيشها في المغرب، وما كثرة اللجان والمجالس المعينة سوى تجلّ صارخ لهذا النموذج السيئ من البيروقراطية السلبية اللاغية للتعدد الذي يتميز به المجتمع المغربي وللخصوصيات السوسيو- ثقافية والتاريخية لمناطقه المتنوعة.
نحن نعيش اليوم في مجتمع "عدم الثقة" يتحكّم فيه أشخاص غير منتخبين، ولعل هذه هي إحدى أهم خلاصات التقرير الذي جاءت به اللجنة المذكورة. وعلى الرغم من أنّ هذه الحقيقة تكاد تكون معروفة من الجميع، فإنّ أيّ تصور لإيجاد حلّ للمشكلات التي يعاني منها مغرب اليوم لن يجد له تطبيقاً على أرض الواقع، ما دامت هوة فقدان الثقة شاسعة ما بين الدولة وأغلبية المجتمع الصامتة التي لم تعد تكترث بما يأتي من فوق، فمن بين 25 مليون مغربي في سنّ المشاركة السياسية، ما يقرب من 20 مليوناً قاطعوا كلّ الاستحقاقات السياسية التي شهدها المغرب طوال العقدين الماضيين!
الإصلاح الحقيقي يبدأ بإصلاح الآلة البيروقراطية للدولة المرتبطة ببنية النظام السياسي "المخزني" القائم على الريع والامتيازات
من أجل مغرب مزدهر، لا بدّ من التخلّص من إرث الدولة اليعقوبية الذي ورثه المغرب عن عهد الاستعمار، وتم تضخيمه من خلال بنية "المخزن" التقليدية التي حوّلت مواطنينا إلى مجرد زبائن ومتفرجين، وأسندت القرار السياسي إلى مسؤولين معينين، وهذا النموذج محكوم عليه بالفشل ولا يمكنه أن يأتي بإصلاح حقيقي للدولة والمجتمع، لأنّه هو نفسه أساس كلّ المشكلات. الإصلاح الحقيقي يبدأ بإصلاح الآلة البيروقراطية للدولة المرتبطة ببنية النظام السياسي "المخزني" القائم على الريع والامتيازات، والذي تشكلت من داخله وحوله شبكة من المصالح الضاغطة والمكبِّلة لأيّ مشروع ديموقراطي وتحديثي للدولة والمجتمع، نظراً لما يمكن أن يستتبع ذلك من انهيار شامل لهذه المنظومة. ومن دون استحضار مصلحة المواطن أولاً، وفتح المجال للمبادرات الحرّة وتوسيع هامش الحريات أمام الأفراد والمجتمع المدني والمسؤولين المنتخبين، وإيجاد انفراج سياسي يبدأ بإطلاق سراح كلّ معتقلي الرأي والكلمة الحرّة، وتقليص نسبة العجز الحاصل في منسوب الثقة ما بين الدولة والمجتمع، لا يمكن الحديث عن نموذج تنموي مزدهر يعيد للسياسة مفهومها النبيل؛ أداة لفعل الخير، وليست مجرّد وسيلة لتحقيق المصالح الذاتية.