المطران جورج خضر: العشق الإلهي وجماره الإبداعية
بلغ المائة؛ يا لهذه الحياة المديدة المفعمة بالجمال والرِفعة والإبداع. ها هو المطران جورج خضر يطوي قرنًا ولم يطوِ ألبتة أوراقه وأقلامه إلا تَعَبًا، لا عتبًا على الكلمات العنيدة. كان يردّد دائمًا: "إن الله أراد أن يكتب بيده وينطق بلسانه"، وتلك عبارة تقترب من عبارات المتصوّفة المسلمين في لحظة الكشف أو الانخطاف أو الاتحاد أو الإشراق.
علاقة المطران خضر بالله علاقة حبٍّ وعشق، لا علاقة خوف. وكان يكتُب بلا توقف ليعبّر عن ذلك الحب، وكانت كلماته رحيقًا في غلالة من الحزن. وكثيرًا ما كرّر القول إنه يكتب ليشفي نفسه من ذاك الحب. هو شاعر ولاهوتي ومفكّر ومتأمل وفيلسوف ورجل دين وواعظ وعلماني ويساري وقومي عربي. مَن مثله يستطيع أن يجمع هذه الجواهر، ويرتقي في نبله إلى المحلّ الأرفع؟ فالنُبل مثل الألماس، لا يمكن صنعه، بل يجب السعي للعثور عليه. والمطران جورج خضر عاش حياته وهو يسعى في سبيل اشتيار الجمال من قبح العالم.
كان اسمه في جريدة لسان الحال وائل الراوي. واسمه في جريدة النهار المطران جورج خضر. ولا ريب أن مقالاته في "النهار"، في كل سبت، نجحت في تقديم المسيحية إلى الناس لا جماعة دينية، بل تراثا روحيا سوريا أو آراميا، أو طريقة لفهم الكون والصفاء الكوني والاندهاش بالمقدّس والألوهة التي هي، في نهاية المطاف، ينبوع نور يغمر العالم ويخلّص البشر من أثقالهم. وخلاصة الرحيق الإيماني لديه جسّدها في شخصية المسيح، وصار المسيح بين أصابعه وأقلامه الجمال الأبدي، بل عطر الكتابة الساعية إلى الخلاص البشري، بل جَعَلَ المسيح، فوق ذلك، رؤية شعرية خالصة. والكاتب أو الشاعر في أعماقه ليس مبدعًا فحسب، بل مترجم يترجم إحساسه بالله والوجود إلى كلام جميل. ومثلما أن إيمانه منغمرٌ بالثالوث المقدس، كانت كلماته وعباراته منغمرة بالثلاثي الإنساني البهي، أي الألم والحب والإشراق. والانسان لديه هو هيكل الله بالمعنى الصوفي، وهو نفسه عاش تجربة التطلّع إلى رؤية الإنجيل حيًا بين البشر، كي يصبح الإنسان نفسه مقرًا للألوهة بالمعنى المجازي.
كان جورج خضر يجاهر بموقفه الحاسم من فلسطين وقضيتها وشعبها، على الرغم من تحفّظات بعض أركان كنيسته
شُغف المطران جورح خضر بالإيمان الأرثوذكسي، وهذا الشغف كان يدفعه إلى اكتشاف النور في الإسلام، لأن الإنسان عند المطران إذا رأى أنوارًا خارج أسواره أصبح شعاعًا من تلك الأنوار. ولا عجب في هذه الرؤية الأخّاذة لدى جورج خضر؛ فهو مولودٌ في طرابلس في عام 1923، ونشأ في حي إسلامي من أحياء المدينة، وكان يمرّ يوميًا بالمساجد القديمة، ويحدّق في المصلين وهم يسجدون ويقومون، فسحرته تلك المشاهد، وأكبّ على قراءة القرآن. والأرثوذكس في طرابلس كانوا في نظر مسيحيين كثيرين مسلمين بأردية مسيحية. أما هم فكانوا يتجهون في عواطفهم إلى الداخل السوري، وإلى حمص مثلاً، ويسمّون أبناءهم بأسماء عربية خالصة، مثل خالد، تيمنًا بخالد بن الوليد فاتح الشام ومدينة حمص السورية. ويفاخر كثيرون من أهالي شمال لبنان الأرثوذكس بانتسابهم إلى بني تغلب العرب، فيما يحوّل آخرون أنظارهم نحو أنطاكيا؛ فهم سريان، أي سوريون، والأمة الأنطاكية متطابقة في التاريخ والجغرافيا مع سورية التاريخية. وكثيرًا ما كان جورج خضر يردّد: "نحن لسنا أهل كتاب، بل نحن أهل يسوع".
في كتابه "فلسطين المستعادة" لم يتردّد المطران جورج خضر في إسباغ التعظيم على الشهداء والمقاومين، لا في فلسطين وحدها، بل في كل مكان فيه احتلال وعسف. ودائمًا كان يجاهر بموقفه الحاسم من فلسطين وقضيتها وشعبها، على الرغم من تحفّظات بعض أركان كنيسته. ومضمون موقفه هو رفض نتائج ما جرى في سنة 1948، أي طرد الشعب الفلسطيني من بلاده وإعلان تأسيس دولة إسرائيل، وكذلك رفض التطبيع مع هذه الدولة. وكان يردّد باستمرار أن لا سلام مع إسرائيل إلا إذا تخلص اليهود من الصهيونية، فإسرائيل "دولة حَبِل بها الإثم ووُلدت في الخطيئة". ولدى قضية فلسطين جرح دامٍ في قلب العالم العربي، ولا يمكن أن يصمت المسيحي ألبتة على ما يحصل في فلسطين.
في إحدى حلقات "اللقاء الثقافي الفلسطيني" الذي كان يديره في بيروت أنيس صايغ، وكنتُ مساعده في تلك الأثناء، راح المطران يحدّثنا ضاحكًا عن يفاعته في طرابلس وتردّده وأقرانه على أحياء المسلمين لأن خيالهم المشبوب جعلهم يعتقدون أن الفتيات المسلمات أكثر جاذبيبة من الفتيات المسيحيات. وفي تلك الحقبة، كان الأب يوسف يمين أصدر كتابًا عنوانه "المسيح ولد في لبنان لا في اليهودية" (1999) زعم فيه إن بيت لحم التي شهدت الولادة الخارقة للمسيح لا تقع في فلسطين بل في لبنان، وأن بلدة قانا الجليل التي صنع المسيح فيها معجزة تحويل الماء إلى خمر موجودة اليوم في شرق مدينة صور اللبنانية. وعندما سألتُه عن الحكاية أجابني بسخرية قائلاً: يا إبني، لو أن مريم ركبت الدبّة (الدابة) وسارت من الناصرة إلى شرق صور لاحتاجت أربعة أيام كي تصل، ولأكلتها الضبوعة (الضباع). دعك من هذه الحكايات التي لا علاقة لها بالتاريخ أو بالإيمان. إنها تآليفُ فاسدةٌ تنطق عن هوى وتعصّب ولا قيمة لها.
لغة جورج خضر التي أذهلتنا وسحرتنا وغمرتنا بنعيم روحاني، إنما استعارها من جمال الألوهة التي غمرت المطران بجمارها ولألائها طوال قرن
قاوم المطران خضر التعصّب الديني في لبنان باسم المسيح، وكان واحدًا من أربعة سَمَتْ بهم الحياة الروحية والاجتماعية في لبنان وفلسطين هم: هاني فحص والمطران غريغوريوس حداد والمطران هيلاريون كبوجي، وهؤلاء عاكسوا طوائفهم وخالفوها وناضلوا في سبيل المُثُل التي تتخطّى انغلاق الطوائف.
... ما كتبه جورج خضر بحر من الصفاء، كأنه كان يغرف من محيط. مَن لا يعرف المطران، أو فاته أن يعرف بعضًا من سيرته، عليه أن يكتشفه في مؤلفاته مثل: أنطاكيا الجديدة (1969)، فلسطين المستعادة (1972)، هل الدين أفيون الشعوب؟ (1975)، تأملات في تجسّد الكلمة (1976)، الأيقونة (1978)، لو حكيتُ مسرى الطفولة (سيرة – 1979)، عُري المسيح (بالإنكليزية – 1996)، القدس (2003)، هذا العالم لا يكفي (2005)، سر الحب (2014).
حري بنا أمام مهابة المطران جورج خضر، وقد بلغ المائة، أن نستعيد شيئًا من تبشيره الإنساني الذي أراد من الكنيسة الأرثوذكسية ألا تكون مؤسّسة دينية لطائفة محدّدة، بل كنيسة للرب، فلا تكتفي بالعبادات وطقوس الموت والولادة وإحياء الأعياد والمناسبات، بل عليها أن تحيي البهجة في نفوس الناس والأمل في صدورهم والنهضة في مجتمعاتهم. وإذا كان الله، بحسب اعتقاد المطران جورج خضر، قد "استعار لغة البشر ليخاطب البشر" فسأتجرأ على القول إن لغة جورج خضر التي أذهلتنا وسحرتنا وغمرتنا بنعيم روحاني، مع أننا لم نكن من ذوي النزوع الروحاني ألبتة، إنما استعارها من جمال الألوهة التي غمرت المطران بجمارها ولألائها طوال قرن.