تأملات في ما يجوز وما لا يجوز... هل تُطوى صفحات التحرّر الوطني الفلسطيني؟

02 نوفمبر 2024
+ الخط -

"الحقيقة هي الضحية الأولى في الحرب".. روديارد كيبلينغ.

هل بلغت التراجيديا الفلسطينية المجلّلة بالدمار، والمكلّلة بالدماء، ذروتها؟ أم ثمّة ذرىً جديدة من الإبادة والقتل ما برحت مخبوءةً تحت أكمام القادة الإسرائيليين الفاشيين؟ وهذه الفاشية الأميركية الإسرائيلية الماثلة أمام أعيننا ليلَ نهار تُقطّع نياط القلب عشرات المرّات في كل يوم، وتحزُّ بسكاكينها جلودنا ومسامنا وشراييننا. والصور التي تتحرّك أمامنا في كلّ لحظة، منذ أكثر من سنة، "تزغلل" الأبصار، وتجعل الأسى العظيم يغمر بِلَوعته البشريةَ المتألمة والبشرية المُفكّرة معاً. ومع ذلك، لا أملَ قريباً كما يلوح لي في وقف هذه المحرقة المتمادية التي تدوّخ بأهوالها الإنسانية كلّها أو ما بقي منها.

ما يجوز هو مناقشة الأحوال الفلسطينية بجميع تفصيلاتها، وإعادة تقويم ما حدث طوال سنة بأكملها من عمر هذه الحرب الهمجية على قطاع غزّة والضفة الغربية، وعلى الشعب اللبناني أيضاً. وما يجوز هو الخروج بالاستنتاجات المتطابقة مع الوقائع الصحيحة بما تتضمّن من قسوة على الذات جرّاء الفواجع التي حلّت بنا. أمّا ما لا يجوز فهو النيْل من المعنويات في هذه المرحلة، والاستخفاف بالنضال الوطني الفلسطيني، وبالتوق إلى الحرّية والاستقلال، حتى لو كانت الأثمان ممّا لا يمكن احتمالها أحياناً؛ ففي معمعان القتال لا يجوز تبديل الأحصنة. وكانت الأسئلة البدهية تُطرح في الأحوال العادية على النحو التالي: ما حال قضية فلسطين اليوم؟ أَهي في وضع التحفّز كما كانت بعد حرب أكتوبر 1973 (اعتراف القمّة العربية بمنظّمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة)، أم في وضع التوازن الهشّ كما بدت بعد اتفاق أوسلو في سنة 1993؟ أم في وضع الدفاع الضعيف كما كانت حالها بعد انحسار الانتفاضة الثانية واغتيال ياسر عرفات؟ ... ويبدو لي أنها الآن، بعد عملية 7 أكتوبر (2023) وما تبعها، أقرب إلى وضع التراجع الاستراتيجي الخطر، لأننا إزاء وضع قاهر تريد إسرائيل فيه القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزّة والضفة الغربية، وتريد دفع السلطة الفلسطينية إلى الانهيار المتدرّج، ومنع منظّمة التحرير الفلسطينية من أداء مهماتها في قطاع غزّة، واعتبار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي تمثّل الالتزام الدولي بقضية اللاجئين، منظّمة إرهابيةً ممنوعةً من العمل في الأراضي الفلسطينية؛ أي نزع جميع الأوراق السياسية من أيدي الشعب الفلسطيني، وتجريده حتى من القليل الذي بقي له من وسائل الحماية الذاتية والأممية.

خلافاً للزجليات و"الهيزعات"، التي تبثّها محطات التلفزة العربية، فإن إسرائيل تمكّنت (للأسف!) من القضاء على معظم قادة حركة حماس وحزب الله، ومعظم قادة الصفّ الثاني في المنظّمتَين، واحتلّت قطاع غزّة كلّه، وها هي تفتك بسكّانه خصوصاً في بيت لاهيا، وتستعدّ لاحتلال القرى الحدودية في جنوب لبنان. وتمكّنت، علاوة على ذلك كلّه، من تدمير جانب مهم من القدرات العسكرية لـ"حماس" وحزب الله، الأمر الذي يؤدّي بالضرورة إلى إضعاف الإمكانات القتالية والقيادية ووسائل الإدارة والسيطرة. وقد كان من المتوقّع بعد اغتيال الشهيد الكبير حسن نصر الله (ثمّ بعد اغتيال الشهيد يحيى السنوار)، منطقياً على الأقلّ، البدء بعملية دبلوماسية (أميركية – عربية – إسرائيلية) لإنهاء الحرب في غزّة ولبنان، تُمكّن إسرائيل من استعادة أسراها لدى المقاومة في غزّة، وإنهاء سيطرة "حماس" العسكرية على قطاع غزّة، وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701 (11/8/2006) في جنوب لبنان الذي يتضمّن، عملياً، إبعاد حزب الله عن الحدود مع فلسطين المحتلّة. لكن، بحسب مجريات الأوضاع، ما برحت إسرائيل مصرّة على بقاء جيشها في قطاع غزّة. وحتى لو انسحبت افتراضياً من بعض مناطق القطاع، فإنها، في المقابل، ما زالت تعاند وتصرّ على الاحتفاظ بحقّها في شنّ الهجمات العسكرية على غزّة وجنوب لبنان (وعلى إيران وسورية واليمن والعراق) في ما لو تعرّضت لأيّ خطر أو هجوم، أو حتى احتمال الهجوم (الحرب الوقائية).

 يُخشى أن تطوى قضية فلسطين بعد غزّة، إلى أمد من المحال تحديد نهايته، وأن يغمر "السلام الإسرائيلي" عواصم العرب

فيما يتعدّى التفصيلات، وهي كثيرة جدّاً، فإن القيادة الإسرائيلية تريد ضمان أمن إسرائيل لأجيال مقبلة. وقد اهتبلتها فرصة قد لا تتكرّر بعد عملية طوفان الأقصى، ومسنودة بالدعم الأميركي والأوروبي، لتحقيق إنجاز استراتيجي على المستوى الأمني، وهو إجهاض أيّ إمكان للنيل من الأمن القومي الإسرائيلي انطلاقاً من غزّة وجنوب لبنان ومن الضفة الغربية. أي أن إسرائيل تريد إنشاء أحزمة لأمنها. الحزام الأول في شمال قطاع غزّة بعد تهجير السكّان، والثاني في جنوب لبنان، والثالث في الضفة الغربية؛ وكلّ حزام يجب أن يكون منزوعَ السلاح، ولإسرائيل حرّية الحركة فيه. غير أن هناك ما هو أبعد من قضايا الأمن القومي الاستراتيجي، هو تحطيم الجماعة الوطنية الفلسطينية وأهدافها الموحّدة، وقد نجحت حركة فتح، ابتداء من سنة 1965، في تحويل جموع الفلسطينيين من لاجئين إلى شعب يتطلّع إلى الحرّية وتقرير مصيره بنفسه. وفي الوقت نفسه، يريد هؤلاء الصهيونيون الجدد إعادة الفلسطينيين إلى عصر الخوف بالقول لهم: أَرأيتم ما حلّ بقطاع غزّة؟ أتريدون تكرار الأمر في الضفة الغربية؟ إذاً، عليكم الاستكانة وقبول شروط الاحتلال وأحكامه وإجراءاته؛ فالأمثولة الغزّية موجّهة، بالدرجة الأولى، إلى سكّان الضفة الغربية، ومعها التهديد بالطرد إلى الأردن. وكنا اعتقدنا أن اتفاق أوسلو سيطوي حقبةً من حقب النضال الفلسطيني المسلّح، ويفتح أفقاً نحو مرحلة جديدة يستطيع الشعب الفلسطيني في أثنائها أن يعيد بناء نفسه وسلطته و"دولته"، ويحدّد خياراته الجديدة بحرّية. لكن إفشال الصهيونيين اتفاق أوسلو باغتيال إسحاق رابين في سنة 1995 جعل النضال الفلسطيني المسلّح يعود بصورة جديدة مع كتائب شهداء الأقصى (حركة فتح)، ومع كتائب عزّ الدين القسّام (حركة حماس)، ومع سرايا القدس (حركة الجهاد). أمّا الآن، فإن ما شهدناه ونشهده في قطاع غزّة سيكون الهراوة الثقيلة التي يهدّد بها الإسرائيليون الفلسطينيين في الضفة الغربية، أي أن تلك الهراوة ستنزل على رؤوسهم في حال قرّروا انتهاج نهج "حماس" في قطاع غزة؛ فالترانسفير إلى الأردن في انتظارهم. وكانت إسرائيل قد عملت منذ عام 1967، وازدادت وتيرة عملها بعد اتفاق أوسلو، لتوطين أكبر عدد ممكن من اليهود في القدس والضفة الغربية. وأخال أن إسرائيل ستعمل في المرحلة المقبلة على التخلّص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية. كيف؟ ... بإيجاد أمكنة جاذبة لهم مثل أوروبا الشمالية وأميركا وأستراليا، لمن فقد الأمل بالحرّية بعد النكبة الجديدة في قطاع غزّة.

أرادت إسرائيل تدفيع الفلسطينيين ثمن "طوفان الأقصى". إنها روح التغلّب التي تجعل إسرائيل دولةً فوق دول المنطقة، ولا تنتمي إليها 

أرادت إسرائيل تدفيع المجتمع الفلسطيني ثمن "طوفان الأقصى". إنها روح التغلّب التي تجعل إسرائيل دولةً فوق دول المنطقة، ولا تنتمي إليها، حتى في النطاق الجغرافي. والصهيونيون الجدد ما زالوا لابثين عند رؤية موشيه دايان وتصوّراته في شأن مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلّة في سنة 1967. و"مفهوم دايان" يقول إن غزّة لن تكون تحت الإدارة المصرية مجدّداً، والجولان لن يُعاد إلى سورية، والقدس لن تكون عربيةً (في إشارة إلى الوصاية الأردنية الهاشمية)، ولن تنسحب إسرائيل من مستعمراتها في الضفة الغربية، ولن تقوم دولة فلسطينية مستقلّة. وفي هذا السياق لا بدّ من العودة إلى جذر المسألة: فإسرائيل ليست دولةً لليهود ونقطة على السطر، وليست دولةَ احتلال وكفى، إنّما هي، فوق ذلك، الدولة التي جسّدت خلاص أوروبا من المسألة اليهودية. وقضية فلسطين ليست قضيةَ شعبٍ مشرّدٍ فحسب، فلو كان الأمر كذلك لكان الأجدى تجميعه في أماكن مخصوصة في الدول العربية. وليست قضية إنسانية محض، وإلا لكانت مساعدته بالوسائل الإحسانية أقلّ تكلفة من الدعم السياسي والعسكري. وليس الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي تنازعاً على الأرض، وإلا لكان في الإمكان منح الفلسطينيين أراضي في هذه البيداء العربية المترامية. إن قضية فلسطين إنما هي مصير المشرق العربي كلّه في مواجهة المسألة اليهودية، التي تحوّلت من كابوس يقضّ مضاجع أوروبا، جوهرَ الوجود الاستعماري المباشر في بلادنا العربية. وهذه القضية الشائكة والمعقّدة إن لم تصبح في جدول سياسات العالم، وعلى طاولة صانعي القرارات، فهذا يعني أن أوان الحصاد ما زال بعيداً. وإني لأخشى اليوم أن تُزاح قضية فلسطين عن طاولات السياسة في دول القرارات العالمية. صحيح أنها موجودة الآن ملفّا على تلك الطاولات، لكنّها ليست في طريقها إلى التسوية وإقفال الصفحات. ويُخشى أن يُطوى هذا الملفّ بعد الذي جرى في غزّة إلى أمد من المحال تحديد نهايته منذ الآن، وأن يغمر "السلام الإسرائيلي" (Pax Israeliana) عواصم العرب وديارهم.