المسكوت عنه في قضية ريجيني

22 ديسمبر 2020
+ الخط -

قبل أربع سنوات، تم العثور على جثة الطالب الإيطالي، جوليو ريجيني، على مشارف القاهرة علي طريق القاهرة/ الإسكندرية الصحراوي. عثر عليها وهي مشوهة، وعليها آثار تعذيب مروّع وكدمات وسحجات في أماكن متفرقة من جسده، نتيجة ضرب مبرّح ووحشي تعرّض له. إلى جانب طعناتٍ متفرقةٍ تم تسديدها لجسده، وآثار حرق السجائر وعلامات صعق كهربائي علي أعضائه التناسلية. وبمجرّد أن ظهرت جثة ريجيني بهذه الصورة الوحشية، بدأت الصحافة العالمية تتحدّث عن هذا الأمر. وكعادته، صرح النظام في مصر وإعلامه بأن المتسبب في قتل ريجيني مجموعة من المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين، ثم بدأ بعدها مسلسل تصفية أشخاص أبرياء (خمسة)، قال النظام إنهم متهمون بقتل الطالب الإيطالي. وعلى الرغم من تلك الادعاءات التي ما زال يروّجها النظام المصري، إلا أنها لم تلق أي مصداقية لدى الجانب الإيطالي الذي فتح تحقيقا، وزار مسؤولون ومختصّون منه القاهرة عدة مرات لمتابعة البحث الجنائي وكشف خيوط الجريمة.

مماطلة النظام المصري تخفي وراءها  هدف حماية أحد الأشخاص المهمين من الدوائر المقرّبة من الرئيس، قيل إنه متورّط في القضية

كان في هذا كله هامش من المناورة قام به النظام المصري، لولا سماح الجانب الإيطالي به لم يكن للنظام القدرة على فعل ذلك، ولكن يبدو أنه كانت لدى الإيطاليين أهداف أخرى يريدون تحقيقها، مثل عقد صفقات اقتصادية وصفقات تسليح، وهذا ما دفع بالنظام إلى أن يبتلع هذا الطعم، ظنا منه أنه بذلك سيشتري صمت الإيطاليين عن متابعة قضية ريجيني وإغلاقها، وهي الطريقة نفسها التي قام بها مع عدة دول أوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، مقابل غض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان ضد مواطنيه. وكانت هذه المماطلة التي قام بها النظام المصري تخفي وراءها أمرين أساسين: الأول يبدو أن النظام يريد حماية أحد الأشخاص المهمين من الدوائر المقرّبة من الرئيس المصري، قيل إنه متورّط في القضية. يتعلق الأمر الثاني بالنهج الذي قطعه الرئيس بأنه لن تتم محاكمة أي من الضباط إذا ما ارتكب فعلا فاضحا، وهذا مرجعه شبكة التحالفات الأمنية التي يحكم من خلالها الرئيس، ويريد الحفاظ على أفراده لحماية نظام حكمه.
ولكن ما لم يدركه النظام أن ريجيني مواطن أوروبي، وليس مواطنا مصريا لكي تقوم قوات الأمن المصري بتعذيبه وقتله بهذه الصورة الوحشية. استخدم الإيطاليون عامل الوقت بصورة جيدة لحسابهم، فمع اللقاءات المتعدّدة التي كانت تتم بين فريقي التحقيق من كلا البلدين كان الجانب الإيطالي يضع يده على معلوماتٍ جديدة، ويحاول أن يربط الخيوط ببعضها. وفي هذا كله، كان النظام يستخدم أسلوب المماطلة وإخفاء الحقائق بالطريقة التي يجيدها، والتي وظفها فريق التحقيق الإيطالي لصالحه جيدا، للوصول إلى معلومات جديدة، أسفرت، في النهاية، عن إعلان النائب العام الإيطالي، قبل أيام، عن توجيه اتهام لخمسة ضباط من الشرطة المصرية شاركوا في ارتكاب هذه الجريمة. وبإعلان إيطاليا توجيه الاتهامات لأشخاص بعينهم، والبدء في محاكمتهم أمام القضاء الإيطالي، دخلت قضية ريجيني منحىً جديدا لم يعتده أي نظام مصري من قبل، فلو تم الحكم على هؤلاء الضباط فسيتم وضع أسمائهم على قوائم الإنتربول، وسيتم ترقب وصولهم إلى أوروبا، وقد يتطور الأمر إلي فرض عقوبات عليهم.

ما لم يدركه النظام أن ريجيني مواطن أوروبي، وليس مواطنا مصريا لكي تقوم قوات الأمن المصري بتعذيبه وقتله بهذه الصورة الوحشية

ويأتي هذا التطور في قضية ريجيني في ظل متغيرات دولية وإقليمية واسعة، فالمشهد في الولايات المتحدة قد تغير، ورحيل الرئيس دونالد ترامب عن البيت الأبيض يعني انتهاء الغطاء السياسي الذي منحه من قبل لتمرير تلك الانتهاكات التي يقوم بها النظام وأفراده. يتزامن هذا مع إداناتٍ دوليةٍ واسعة لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، جديدها تصويت البرلمان الأوروبي، بأغلبية (434 صوتا واعتراض 49 وامتناع 202)، على إدانة تلك الانتهاكات، وتبنّيه قرارا في خصوصها، وقد قدم خمس عشرة توصية للنظام المصري في هذا الشأن.
بمجرّد أن أعلنت إيطاليا عن البدء في محاكمة هؤلاء الأفراد المتهمين بقتل ريجيني، أخرج النظام المصري إحدى القضايا المتعلقة بتهريب الآثار، متهما فيها عددا من الإيطاليين، بينهم القنصل الإيطالي السابق في مصر، والذي حكم عليه بالحبس 15 عاما من إحدى المحاكم المصرية. ويبدو أن النظام كان يريد من إثارة تلك القضية أن يُحدث نوعا من المساومة، بأنه لابد من تسليم هؤلاء المتهمين بقضية تهريب الآثار، أو الوصول إلى تسوية لقضية ريجيني، وعدم تسليم أي من الجانبين مواطنيه للجانب الآخر. 
إذا صدر حكم من القضاء الإيطالي بإدانة الضباط الخمسة، هل سيرضخ النظام المصري له؟ تقول المؤشرات، حتى اللحظة، إنه لن يرضخ لأي حكم قضائي صادر من أي دولة أخرى. وهذا يعود إلى أن الرئيس لا يريد أن يظهر أمام شبكة تحالفاته الأمنية بأنه الشخص الضعيف الذي استجاب لهذا الحكم القضائي الذي يعتبر بمثابة ضغط عليه. كما أن الرئيس نفسه يدرك أن هذا الأمر إذا تم فإنه يعني تصدّع التحالف الحاكم الذي تعتبر الأجهزة الأمنية أحد أركانه. معنى هذا أنه سيكون هناك عدم استجابة لما يصدر من أوامر لهؤلاء الضباط، تتعلق بالقتل والتعذيب، لأنه لم تتم حمايتهم من الملاحقات القضائية.

إذا صدر حكم بالإدانة من القضاء الإيطالي فستكون هذه سابقة أولى من نوعها لوجود محاكمة دولية لأعضاء ينتمون لتحالف النظام المصري الحاكم

إذا صدر حكم بالإدانة من القضاء الإيطالي فستكون هذه سابقة أولى من نوعها لوجود محاكمة دولية لأعضاء ينتمون لتحالف النظام المصري الحاكم. كما أنه سيفتح بابا جديدا بشأن الطريق الذي يسلكه هذا النظام، والتي تتشابه، في تلك الحالة، مع الطريق الذي سلكه كل من معمر القذافي في ليبيا وصدّام حسين في العراق وعمر البشير في السودان من بعدهما، بوجود عدد من أعضائه مدانين وملاحقين قضائيا أمام محكمة دولية. على الرغم من هذا، هل يتطور الأمر إلى فرض عقوبات على النظام في مصر؟ هذا مستبعد، لكن المتوقع أن تحوّل تلك القضية رأس النظام إلى عبء على النظام. وفي هذه الحالة، تتدخل المؤسسة العسكرية لتحسم الأمر كما حسمته من قبل، بأن تطيح رأس النظام من أجل الحفاظ على النظام.
لا يمكن توقع كل هذه الأمور بدقة حدوثها، ومواعيدها. ولكن ما يبدو عليه الأمر حتى اللحظة، في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية وزيادة الاحتقان الداخلي وتزايد الأزمة الاقتصادية، أنها قد تسير في هذا الاتجاه.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.