قلق مشروع أو غير مشروع على سورية؟

19 ديسمبر 2024
+ الخط -

لا يمكن غير مشاركة السوريين فرحتهم. كما لا يمكن غير التألم على الثمن الذي دفعوه من أجلها. ولا يكلّ الواحد منا من التحديق في سجونها العامرة بفنون الموت في الموت، والموت في الحياة. وتلك القشعريرة التي تصيبنا لا تتوقف عن إصابتنا. هنا الحرية أغلى من الحياة.

ومن هذه الفرحة، طلع تحذيرَان من إفسادها بالقلق، نقول قلق، لا نقد أو معارضة. الأولوية المطلقة الآن للفرحة. لا مجال للقلق. ثم من المبكّر جداً إبداء رأي قلِق بما يخصّ تلك الثورة: علينا الانتظار. وهذان التحذيرَان يشبهان، إلى حدّ بعيد، ما كنا نتعرّض له في أثناء الحرب أخيراً، عشية هذه الثورة: ليس علينا محاسبة المقاومين لأنهم يحاربون إسرائيل.

ليست السعادة السياسية سعادة صوفية. ليست عشقاً إلهياً غير مشروط. إنها حالة ملموسة. تقوم على وقائع. وهي، في حالات عديدة، أو ربما في جميعها، وبحسب ما شاهدنا خلال أعمارنا، تترافق مع قلق غريزي. قلق على الحياة في بلداننا. هكذا أنظر إلى الثورة السورية. بهجة بسقوط الأسد وإطلاق العنان للحرية. وفرصة، بفضل هذه الحرية بالذات، أن تكون عقولنا مفتوحةً لأي إشارة قلق. هل نحتاج إلى المزيد للتأكيد على شرعية القلق؟

كل ثورة تأتي بما حملها، ولا مرّة كانت بهذا الثلاثي (حزب، برنامج، زعيم)، إلا في التأويلات التاريخية المنتصرة

أولا: أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقا. الأصول القاعدية المعروفة، تجربته القمعية في إدلب، قاموسه الذي لا يعرف غير مفردات الإسلام السياسي، كلماته القليلة التي يعود فيها إلى الشرع الديني، خطبة رئيس وزرائه الجامع من على المنبر... هذا ما يحاول أحمد الشرع أن يغيّره، عندما صار وجها لوجه أمام المجتمع الدولي الذي يحتاجه بعد حاجته تركيا، فانتقل من العقيدة إلى التبدّل، ودرجة عالية من البراغماتية، وتدوير زوايا، وإعطاء فرص، وضبط العناصر المنفلتة، وتسيير أمور الدولة... وهذه مهمّة ساعده عليها هروب بشّار الأسد، وترك موظفي الدولة بعهدة فراغ شرع إلى ملئه بأريحية. حكومة انتقالية، إلغاء قوانين، الإبقاء على أخرى. صورته تتبدّل، رجل ذكي وعملي. بأناقةٍ يقول إنه سيترشح لمنصب رئاسة الجمهورية السورية "إذا طلب منه المواطنون، أو من هم حوله ذلك"، وكأنه يتخيّل زحفاً جماهيرياً نحو داره، يطالبه بتولي رئاسته عليهم... وبرشاقةٍ يُلْفت، مجرّد التفاتة، إلى أن "شكل السلطة في سورية متروك لقرارات الخبراء والقانونيين والشعب السوري هو من يقرّر"... بغموض يعبر عن رغبته بمراجعة قرار مجلس الأمن رقم 2254. وبلغتي المكان والجسد نفسيهما المعتمدتين لدى الأسد الأب والابن يستقبل مبعوث الأمم المتحدة غير بيدرسن.

ثمّة من سيقول إن كل هذا هراء، وإن الثورة الحقيقية لا تقوم من دون حزب منظّم، وبرنامج مفصَّل وقائد كاريزماتيكي. وهذا اعتراض كبُرنا عليه، هو نفسه هَلَك من كثرة فشل حامليه في بقع الأرض. والحال أن كل ثورة تأتي بما حملها، ولا مرّة كانت بهذا الثلاثي (حزب، برنامج، زعيم)، إلا في التأويلات التاريخية المنتصرة. القليل الذي ينبئ بعدم تكرار تجربة الاستبداد والشخصية الكاريزماتيكية لا يكفي. الأجندة الديمقراطية الآن وليس غداً، ليس بعد تسيير الشؤون "المصيرية". إنها في صميمها.

هل كان الأمر أقلّ إلحاحا لو كان أحمد الشرع علمانيا؟ كلا بالتأكيد. أنظر كم من حولك من استبداد مبطن أو سافر قام على فكرة جمهورية، أو علمانية، أو إلحادية أو مُشْرِكة. ما يجمع أنظمتها وما يفرقها أنها ديمقراطية أو استبدادية، أو ما بينهما.

تقوى الديمقراطية، فتعزّز أوضاع النساء. والعكس صحيح: تتراجع النساء عندما تتراجع الديمقراطية

وهذه الأخيرة، أي الديمقراطية، مرتبطة بالنساء. النظام الراحل كانت له "واجهة" نسائية، وشخصيات. زوجة الرئيس التي أصبحت شريكته في السلطة والنهب. ثم بثينة شعبان ولونا الشبل، والفنانات، "المكوِّعات" منهن خصوصا. بل من يتذكّر حملة نزع الحجاب في وسط العاصمة على أيدي مظليات رفعت الأسد، قائد "سرايا الدفاع"، عام 1981، عندما اشتد الصراع بين النظام والإخوان المسلمين؟ كانت واقعة شرسة، نفذتها 15 مظلية درّبهن رفعت الأسد. ومهمتهن واضحة: تخبط السيارة برجلها، تَطْرُق بعنف على شباكها، تدخل رأسها إليها، وتصرخ على الركاب إن كان معهم امرأة محجّبة بداخله. وإذا توفقت بواحدة منهن، تنزع عنها حجابها بالقوة، وترفعه أمام الملأ، كأنه غنيمة، شاتمة صاحبته بأعلى صوت، بأحطّ العبارات... بعد ذلك، حصلت مجزرة حماه ضد الإخوان المسلمين، وصار الحجاب، بطبيعة الحال، رمزاً لمعارضة النظام، وصار السفور مقرونا بـ"تحرّر" لا يجيد النظام غير تصديره إلى الخارج.

لم نرَ في فعاليات الثورة هذه، في مسؤوليها، في احتمالاتها... أي وجه لامرأة. وحدها طلّ الملوحي، الخارجة لتوّها من سجن بشّار الأسد، طلعت إلى الشاشة، وكانت لها صورة، وبالحجاب.

الحجاب فرضه الشرع على الصحافية التي قابلته من سي.إن.إن. والأرجح أنها سألته إن كان يمانع بأن تكون سافرة فقال لها بلى، يمانع. وبسؤاله عن رأيه بالحجاب، قال الشرع، البراغماتي، كلاما غائما. ألقى من بعده عليه شيئاً من الضوء في كلمة الأخرى. وخلاصته أن الله لم يفرض النقاب، أي ذاك الذي "يغطّي كل شيء ما عدا العيون"... بل "سمح" بالحجاب الذي يغطي كل شيء ما عدا "كامل" الوجه والكفين (لاحظ هنا الدخول بـ"تفصيل" يُراد له أن يكون "صغيراً"، مقارنة بالقضايا الملحّة الأخرى. ومكتوب له المزيد من الإلحاح باسم الله).

الآن: مشكلة الحجاب هذه ليست متساوية جغرافيا ولا زمانيا. يكره النظام البائد الحجاب، من دون أن يرفع من شأن المرأة. ليس لحليفه النظام الإيراني موقف مختلف: منذ عامين، سحق ثورة نسائه الوطنية ضد الحجاب، وها هو برلمانُه يستعد للتصويت على قوانين أكثر تحكّماً به. فيما النظام السوري الجديد، الخصم للإيراني، قد يسرّبه بغفلةٍ من المبتهجين والمبتهجات به.

بغموض يعبّر أحمد الشرع عن رغبته بمراجعة قرار مجلس الأمن 2254. وبلغتي المكان والجسد نفسيهما المعتمدتين لدى الأسد الأب والابن يستقبل بيدرسن

فماذا يختار الشرع؟ بماذا يستعين لبلورة خياره؟ هل من دوْر للنساء السوريات في هذا المجال الذي يخصّهن، محجّبات كنّ أو سافرات. ولا ننسى أن الحجاب قد يكون اختياره حرّاً، وقد يكون ضغطاً عائلياً اجتماعياً مهنياً دينياً... فهل تكون المرحلة المقبلة فرضاً سلطوياً إضافياً على المزيد منه؟ أم يقتصر على نساء السنّة وحدهن؟ إذ لا تلبسه العلويات ولا الدرزيات ولا المسيحيات؟

النساء والديمقراطية، وتلازمهما منطقي: تقوى الديمقراطية، فتعزّز أوضاع النساء. والعكس صحيح: تتراجع النساء عندما تتراجع الديمقراطية. هذا نظرياً. أما على أرض الواقع، فهناك انعدام للانسجام بين الاثنين. الديمقراطية تتراجع في بلدان "المجتمع الدولي"... فيما نساؤه يراكمن المواقع السياسية، حتى في أواسط كارهي الديمقراطية. إنه "المجتمع الدولي"، أي الغرب؛ تلك الدول التي تراعي حتى الآن الثورة السورية، والتي يقدّم لها الشرع أوراق اعتماده، بالقطّارة، كأنه في امتحان دقيق.

ثم، هل تلازم الديمقراطية والنساء مرهون بإرادة الشعب السوري وحده، أو إرادة نخبه؟ هل تزهو وتثمر من رماد الإسلام السياسي، تيمّناً بالتجارب المسيحية الديمقراطية في الغرب؟ أم نكون امام نفق طويل آخر، نمتنع عن الاقتراب إلى ظلمته؟ خوفاً مما يخبئه لنا من ألغام سوداء قد تنفجر بوجوهنا؟