الكرة والسيادة والشعبوية
حتى الكرة، لم تسلم من الشعبوية التي تتلحف في تونس تارّة باسم شعب ملاك منسجم وموحد وراء زعيمه، وتارّة أخرى بنزعة سيادوية مطلقة، مستعدّة أن تخوّن كلّ من يخالفها. لم يسلم أي شيء من موجة الشعبوية الزاحفة: الماء والهواء والكرة، وحتى الشجر لم ينج من هذا التوظيف، فقد خصّه الرئيس قيس سعيّد يوم عيد الشجرة بمديحٍ كثير، في تزامنٍ مع أكبر تظاهرةٍ عرفتها البلاد تنديداً بالانقلاب. كان ذلك يوم الجمعة، 26 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، حيث زرع الرئيس شجرة في أحد المعاهد الثانوية بضاحية الزهراء التي عرفت اعتداءً فظيعاً على مربٍّ. وظلّ الرئيس يتهجم على خصومه، فقال فيهم: "هناك في أماكن أخرى البعض لا يزرع الأشجار، لكن للأسف يزرع بذور الفتنة، زرعهم سيكون كأعجاز نخل خاوية، وستأتي عليهم ريح عاتية". لا يفوّت الرئيس أي مناسبةٍ حتى يحولها إلى مناسبة "لإرسال صواريخه" لتدمير أعدائه.
كان يفترض، خلال الأيام المنصرمة، أن تجري مباراة تجمع الفريق الوطني التونسي مع نظيره الزامبي. جرت من دون جمهور في ملعب رادس، وقد راجت معلومات، قبل انطلاقها بيومين، تفيد بأن الملعب سيفتح للجمهور، خصوصاً أنّ البلاد قد تخلصت من كابوس الحجْر الصحي ورائحة الوباء التي خيمت على سمائها نحو سنتين، غير أنّ ذلك لم يقع وسط تأويلاتٍ عديدة، منها الخشية من تحوّل المباراة إلى احتجاج، وما يمكن أن تتخللها من أعمال عنف، ومنها أيضاً خشية العدوى، خصوصاً أنّ نسب التلقيح في أوساط الشباب ضعيفة، ويمكن أن تحدُث انتكاسة صحية، بعد حالة التعافي التي عرفتها البلاد من شهرين.
التهمة الموجهة إلى رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم تتجاوز مجرّد حرمان الجمهور من حضور المقابلة
ظلت التأويلات متضاربة، إلى أن قطع وزير الشباب والرياضة حبل الالتباس هذا، حين أعلن، في تصريح ظلت أصداؤه مدوية، أنّ رئيس الجامعة احتجز الجمهور الرياضي التونسي، وحرم المنتخب من دعم اللاعب رقم 12. إلى هنا، انتهت الفسحة، ومن يتطاول على الدولة لا وجود له في المشهد الرياضي. والحقيقة أنّنا لم نألف مثل التصريحات من وزراء هذه الحكومة التي دعيت إلى الصمت.
يبدو أنّ التهمة الموجهة إلى رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم تتجاوز مجرّد حرمان الجمهور من حضور المقابلة. وهي تخفي تهما أخرى، لا تقف عند حرمان الشعب من متعة الكرة والمساهمة في تنغيص المزاج الشعبي، والحال أنّ البلاد تحتاج فسحة متعة، بل يمكن أن تكون متعلقة بالفساد.
حتى نفهم كل هذا التصعيد علينا أن نعرف أن الوزير الحالي يعود إلى الوزارة، بعدما أقاله رئيس الحكومة السابق، هشام المشيشي، لأسبابٍ ما زالت غير معروفة، لكن يبدو أنه كان محسوبا آنذاك على الرئيس، خصوصاً أنّ خلافات حادّة نشبت بينه وبين رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم، سرعان ما تسرّبت إلى الإعلام.
ما يهمنا من هذه التفاصيل أنّ الخلاف الحالي الذي وصل إلى الاتحاد الأفريقي لكرة القدم أخذ منعرجاً خطيراً، فما إن صرح الوزير بما ذكرنا، حتى سارع رئيس الجامعة إلى هياكله الإقليمية والدولية، لإعلامها بهذا التصعيد. لذا بادر الاتحاد إلى إرسال بيانٍ تداولته وكالات الأنباء ومختلف المواقع الإخبارية، فيه تذكير أنّ رئيس الجامعة منتخب، وأن لا سلطة للوزارة عليه، وأنّ "منع الجمهور من حضور المباراة" كان قراراً اتخذه الاتحاد الأفريقي ذاته، بل ذهب هذا الأخير إلى التلويح بأنّه قد يجد نفسه مدفوعاً إلى شطب مشاركة الفرق التونسية من المباريات القارّية، كما يمكن لهذه العقوبة أن تشمل المنتخب التونسي.
لا يمكن للنزعات السيادوية أن تجد لها مقاماً صلباً في عالمٍ تتشابك فيه العلاقات
هدأ غبار المعركة ولو إلى حين، لكن لا أحد يعرف التطورات المقبلة، خصوصاً وقد تم خلال الأيام الأخيرة إعفاء رؤساء جامعات رياضية أخرى بتهم الفساد. وتقدّم هذه الحادثة درساً بليغاً في استثمار الرياضة الأكثر شعبية، أي كرة القدم، في تغذية الشعبوية. للشعبوية نهم عجيب وقدرة فائقة على استثمار المشاعر، وهي تتصيّد كلّ الأحداث، حتى تنتج فيضاً من مشاعر شعبوية بدورها. لقد قيل في تعريف الشعبوية "إنّها أيديولوجيا الاستياء". وها هي حقاً تستثمر في مشاعر "الاستياء الشعبي" الحقيقي والمتخيل، نتيجة حرمان الجماهير من حضور المقابلة، حتى تبدو السلطة عطوفاً على شعبها. وبقية الدرس الآخر تفيد أيضاً أنّ النزعة السيادوية التي يمكن أن ترافق الشعبوية، كما هو الحال في التجربة التونسية، اصطدمت بجدار المنظمات الدولية التي لها آليات تسيير خاصة بها. إذ ذكّر الاتحاد الأفريقي السلطات التونسية ضمنياً أنّ الجامعة التونسية منتخبة، وأنّ لها هياكل للبتّ في التجاوزات الممكنة، لذا فإنها متضامنة مع رئيس الجامعة.
لا يمكن للنزعات السيادوية أن تجد لها مقاماً صلباً في عالمٍ تتشابك فيه العلاقات، وتصبح فيه المنظمات الدولية هياكل لتسيير خدمات معولمة قائمة في جلها على مبدأ العضوية الطوعية والانتخاب.
كان مارادونا صديق فيديل كاسترو، وكانا يقطفان ثمار إطلالاتهما معاً. كرة القدم قد رسّخت شعبيتهما. ويمكن أن نستعرض عشرات الأمثلة الأخرى، غير أنّ ثمّة أيضاً استثمارات كارثية أخرى لكرة القدم، لا يمكن حصرها.