الفشل الحالي لمشروع إسرائيل القومي ... في توقعات دويتشر "اليهودي واللايهودي"
صحيحٌ أنّ الكاتب والناشط السياسيّ البولنديّ إسحق دويتشر Isaac Deutscher (1907 - 1967) كان يهوديّ الأصول والنشأة الدينيّة، إلا أنّه كان راسخاً في اقتناعاته الماركسيّة الأمميّة، غير مسلّم إلا بالمادّية التاريخيّة وبالفكر الديالكتيكيّ، نافياً الغيبيّات الدينيّة، ومناهضاً في شكل أساسيّ القوميّات، بما في ذلك القوميّة اليهوديّة التي نظر إليها نقيضا للمشروع الأمميّ الماركسيّ الذي يجمع الشعوب كافة في مجتمع إنسانيّ واحد يتجاوز الأعراق والقوميّات والأديان. وكان أقرب إلى تروتسكي (اليهوديّ مثله)، وإلى فكر ماركس (اليهوديّ أيضاً)، مناهضاً نهج ستالين سلطةً وفكراً وأفعالاً. وخصّ تروتسكي بثلاثيّة مرجعيّة مهمّة تحت عناوين "النبيّ المسلّح" (1954) و"النبيّ الأعزل" (1959) و"النبيّ المضطهد" (1963)، مستعيناً بأرشيف جامعة هارفرد. وكان يأمل في إنجاز بحثٍ مماثلٍ عن لينين، بيد أنّه انتهى إلى وضع كتاب عن ستالين عام 1983.
في الجانب الدينيّ، لم يتنكّر دويتشر لأصوله اليهوديّة، وإلى المجموعة اليديشيّة إرثاً ثقافياً وسوسيولوجيّاً ولغويّاً (كان رافضاً اعتماد اليهود، وبخاصة صهاينة إسرائيل، اللغة العبريّة)، وهو ينتمي إلى مجموعة من كبار عمالقة الفكر اليهود في النواحي الإنسانيّة العامّة، البعيدة عن الدين والتعصّب الدينيّ الأعمى، العلمانية والملحدة في معظم الحالات، مع أمثال سبينوزا وهاينه وماركس وتروتسكي وفرويد وروزا لوكسمبرغ و...، فقد تطلّع هؤلاء إلى ما هو أبعد من الانتماء الدينيّ الضيّق والمُقيّد إلى أبعد الحدود، أي إلى جوهر كلّ ما هو عظيم في الفكر الإنسانيّ، طارحاً، في الوقت نفسه، سؤالاً جدليّاً: هل من المحتمل أن يكون تأثير هؤلاء العظيم في الفكر البشريّ منبثقاً من "عبقريتهم اليهودية" الخاصة؟ يجيب نفسه على نحو قاطع وحازم: "لا أؤمن بعبقريّة محصورة بعرق أو سلالة. ومع ذلك، احتفظ هؤلاء بيهوديتهم، على هذا النحو أو ذاك، وامتلكوا في ذواتهم شيئاً من جوهر الحياة اليهودية وفطنتها (...). لقد عاشوا في الهوامش أو في الزوايا المظلمة لشعوبهم، وكان كلٌ منهم في المجتمع، إنّما خارجه أيضاً (...)، ومكّنهم ذلك من الارتقاء بفكرهم فوق تلك المجتمعات وفوق أممهم وعصورهم وأجيالهم، ليجوبوا في آفاقٍ جديدةٍ أوسع وأبعد نحو المستقبل".
إلى هذه الفئة من اليهود ينتمي دويتشر، إذن، متخطّياً نطاق الدين الضيّق نحو أمميّة إنسانيّة أوسع (على نحو ما فعل ملهماه الكبيران ماركس وتروتسكي قبله). ورغم ذلك، ولأنّ الإنسان لا يستطيع تغيير جلدِه بحسب تعبير فرويد، فإنّه لا يستطيع الخروج مائة في المائة من أصل انتمائه الدينيّ، لأنّ في الأمر انتماءً ثقافيّاً وتاريخيّاً وحضاريّاً لا يمكن الخروج عليه. ومن هنا، عدم رفض دويتشر، مثلاً، وجود إسرائيل، إنّما ليس هذه "الإسرائيل" الموجودة اليوم، العنصريّة والمتوحّشة، وبخاصّة رافعة لواء الدولة القوميّة لليهود حصراً، فهذا ما كان دويتشر ضدّه بالمطلق مذ وضع مؤلّفه الأشهر "اليهوديّ اللا يهوديّ" (Non – Jewish Jew) عام 1968، وتوقّع فيه فشل مشروع الدولة اليهودية القوميّة على أرض فلسطين، وهذا أساس معالجتنا لأفكاره وتوقّعاته المدهشة هنا، والتي نشهد اليوم صحّتها على أرض الواقع.
المثل الأعلى لجميع اليهود هنا، بحسب دويتشر، يتجلّى في بناء هيكل قوميّ وقائيّ متين، ما يقتضي ضمناً التخلّص من حياة المنفى، والذكريات
يرى دويتشر أنّ "كلّ هذا الصراخ المتناغم من التصوّف القوميّ يصمّ الآذان، إذ لا يخلو من عنصريّة الشعب المختار القديمة غير المنسجمة مع عنصر العقلانية الباردة في الطبع اليهوديّ، غير أنّ إسرائيل، بعد كل حساب، هي بلد زوهار Zohar، الإنجيل الثاني للغيبيّات في العالم، وهي مقرّ رجال الكابالا Kabbalists الذين نسجوا رؤاهم من الصخور الزاهية المجاورة لصفد ... ومهما يكن من أمر، ثمّة شيء مزعج في حدّة الشعور القومي الذي ينضح به حديث الإسرائيليين على اختلاف مواقعهم ومسؤولياتهم". في هذا المقطع، ينسف دويتشر مسلّمات عديدة: عنصرية الشعب المختار، تهافت الشعور القوميّ، والغيبيّات الدينيّة التي يتخذ منها المشروع الصهيونيّ أحد مرتكزاته. ويعتبر أنّ "أقدم شعب في العالم" (يستلزم هذا مناقشةً حول مدى دقّة هذا التوصيف وصحّته) شكّل في إسرائيل أحدث دولة قومية، وهذا الشعب مندفعٌ في تعويض ما فاته زمنيّاً. المثل الأعلى لجميع اليهود هنا (والكلام دائماً لدويتشر) يتجلّى في بناء هيكل قوميّ وقائيّ متين، ما يقتضي ضمناً التخلّص من حياة المنفى، والذكريات، والعادات، والأذواق، وروائح المنفى، أي التحرّر من هذا المنفى. كما يقتضي تناسي الأجواء، المناظر الطبيعية الريفية والموسيقى واللغات في بلدان عديدة، مثل بولندا، روسيا، ليتوانيا، النمسا، المغرب، تركيا، والعراق. يا لها من عملية ممتدّة ومتعدّدة الجانب، تتمثّل في اقتلاع الذات وتليه خطوات مأساوية من الإخلاء المادي. في الحقيقة، ثمّة أغلبية ساحقة من الجيل الحاضر في إسرائيل لم تضرب جذوراً لها في إسرائيل، ولن تستطيع ذلك. إسرائيل هي دولة الفرد المشرّد (التائه)، لذا يكثر الحديث لديهم عن: الجذور الضاربة.
تعقيباً على كلام دويتشر الواقعيّ هذا، يحضرني عنوان رواية اللبناني الراحل يوسف حبشي الأشقر "لا تنبت جذورٌ في السماء"، فهذا العنوان يرمز إلى معنى مزدوج: أنّ العقائد الدينية الغيبيّة لا تستطيع غرز جذور لها "في السماء" أي في الغيب، وأنّ "الجذور الضاربة"، بحسب تعبير دويتشر، لا تنمو وتتصلّب في أرض هي ملك شعب آخر، ولذلك لا تكون جذوراً صلبة، راسخة ومتينة، لكونها مصطنعة أو "مخترعة" ولا تاريخ يسقيها. وفي هذا الصدد، يقدّم دويتشر أمثلة مفحمة بواقعيتها قائلاً: "يتوق يهود إسرائيل إلى الابتعاد عن ماضيهم لإزالة علامات المهانة ووصمات العار من أذهانهم، ولتناسي كلّ المحاولات التي قاموا بها لمجابهة ضغائن الآخرين الموروثة. بل إنّهم يتوقون للتخلص حتى من جزءٍ من عقلهم الخاص. يشعر بعض الإسرائيليين مثلاً بخجل عُصابيّ (neurotic) من اللغة اليديشيّة، لغة أشعارهم في الحضانة ولغة قصص التوراة والأدب الغنيّ المدهش الذي ازدهر في شرق أوروبا قبل النكبة اليهودية هناك. وإذا كنتَ على ظهر سفينة، أو في تل أبيب، وسألتَ أحداً عن اللغة التي ينبغي مخاطبته بها، فستكون الألمانية جوابه غالباً، ونادراً اليديشيّة... فاليديشيّة {ورقة توت} لغويّة، وهو مصمّم على نبذها (...) لقد رأت الصهيونيّة دوماً أنّ اليهوديّة ما هي إلا أمير الزمان الذي حُكم عليه بالعيش في فقر مدقع لسنين مديدة، غير أنّ هذا الأمير يعود اليوم إلى قصره الملكيّ ويخلع عنه الأسمال البالية الكئيبة التي ارتداها في الحفلة التنكرية، فيرتدي الثياب الملكية المذهّبة والأرجوانية. هكذا تتخلّى اليهودية عند عتبة إسرائيل عن الأسمال اليديشيّة البالية من أجل ذهب العبريّة وأرجوانها".
في الجانبين، السوسيولوجيّ والطبقيّ، يرى دويتشر أنّ في إسرائيل تفاوتاً ملفتاً بين أصحاب الثروة والفقراء
بالنسبة إلى دويتشر، حاول المشروع الصهيوني (ولا يزال) جمع ما لا يُجمع، يهوديّاً، في بوتقة قوميّة واحدة، معتبراً أنّ دولة إسرائيل في الأصل من ابتكار يهود أوروبا الشرقيين، وخاصة الروس والبولنديين والليتوانيين. ولدى إعلان قيام الدولة اليهودية عام 1948 كان اليهود الذين من أصل روسيّ وبولنديّ يشكّلون نحو نصف سكانها. كان التيار القديم للحياة اليهودية يجري على أشدّه في الأحياء اليهودية من أوروبا الشرقية، حيث كان اليهود يعيشون أحلام صهيون بقوّة، وعندما كانوا يتبادلون التحيّة في أعياد الفصح اليهوديّ كان التعبير الشائع بينهم "عامنا المقبل في القدس"، على عكس ما كان يحصل في البيوت اليهودية في أوروبا الغربية أو في أميركا (...) فهل يثير الدهشة سماع أحد اليهود من غرب أوروبا يقول "إسرائيل مستعمرة روحية للأحياء اليهودية في أوروبا الشرقيّة"؟
في الجانبين، السوسيولوجيّ والطبقيّ، يرى دويتشر أنّ في إسرائيل تفاوتاً ملفتاً بين أصحاب الثروة والفقراء، فـ "ثمة بَوْنٌ شاسع بين أكواخ العبور التي يقطنها الفقراء، والفنادق المترفة والفيلات على جبل الكرمل. وهناك شعورٌ بالخزي منتشر وخطير بسبب هذا التفاوت، المماثل لما كان عليه في زمن تولستوي وتشيخوف ... ". والمفارقة أنّ هذا التفاوت الاجتماعي في إسرائيل ما برح قائماً حتى الساعة، علماً أنّ دويتشر رصده منذ الستِّينيات من القرن الفائت!
نصل إلى جوهر ما توقّعه دويتشر وتنبّأ بحصوله، ويتّصل مباشرة بالصراع العربي – الإسرائيليّ القائم حتى الساعة بكامل تمظهراته وأشكاله العنفيّة بين الشعب الفلسطينيّ الصامد والمقاوم تحت الاحتلال، ودولة الاحتلال والإحلال والاستيطان والمجازر اليومية، فدويتشر نبّه الإسرائيليين وقادتهم إلى مآلات هذا الصراع، قائلاً: "المأساة اليهودية الحديثة هي أنّ العالم دفع اليهوديّ إلى البحث عن الأمان في دولة قومية، في حين أنّ مفهوم الدولة القوميّة هو في طور الانحلال ... ففي حين لم يعد الإنسان ينمو مكانةً من خلال الأمّة ولم يعد بإمكانه أن يجد نفسه مجدّداً إلا في مجتمع فوق – قوميّ، وجد اليهوديّ أمّته ودولته. يا لها من مفارقةٍ تاريخيّةٍ محزنة ... الفكرة أنّ الدولة القوميّة تتحلّل ولا تتكامل، سواء أدرك الشعب هذا أو لم يدركه. ورغم كل جهوده للحفاظ عليها ... في الرايخ الثالث، وجدت الدولة القومية أوجها وحضيضها في الوقت نفسه، ولا يمكن لإسرائيل، وهي تنضمّ إلى صفوف الدول القوميّة، إلا أن تشارك في انحطاط تلك الدول. أي شخصٍ تتملكّه الرغبة في وضع كتاب مدرسيّ يتهكّم فيه على الدولة القوميّة لا يسعه أن يأتي بمثالٍ أفضل من دولة إسرائيل بجميع أروقتها المتنافرة ونتوءاتها ومضائقها التي نقشها النقّاشون الماهرون في الأمم المتحدة (...). وفي إسرائيل، يصعب تجنّب التحديق الجنونيّ: حيثما مضيتَ أنت دوماً على حدود أو أخرى: "انظر، هناك فوق على الهضبة سوريون"، "عبر هذا الوادي يتسلّل عرب الأردن ليلة بعد أخرى"، "هنالك في الأعلى تقوم مخافر مصريّة"، "خذ حذرك من هذا الممرّ هنا – إنّه يقودك رأساً إلى لبنان على مسافة قريبة من هنا"، "لقد شيّدنا محطة توليد طاقة تحت الأرض، وإلا سوف تدمّر في اليوم الأول على نشوب أعمال العنف"، "من هنا تمرّ خطوط قطاراتنا عبر ثلاث مناطق أجنبية"، "نحن لا نعبر هذا الطريق بعد الغسق! فهو ملتصق بالحدود" ... وطالما يستمرّ النظر إلى حلّ المشكلة بمعايير قوميّة، فإنّ كلا الطرفين، العرب واليهود، محكومٌ عليهما بالتحرّك ضمن دائرة وحشيّة من البغض والانتقام. يقتل العرب أمهاتٍ وأطفالاً يهوداً، ويرتكب اليهود مذبحة القبية. يتحيّن العرب الفرض لإحداث تغيير في واقع الشرق الأوسط، كي تسنح لهم فرصة تدمير إسرائيل، ويترقّبون، في الوقت نفسه، أي هفوة يمكن أن ترتكبها. ويأمل الإسرائيليون في أن تبقى الدول العربية متخلّفة، كسولة، فاسدة، ومن دون أصدقاء إلى الأبد، مثلما كانت خلال الحرب العربية – اليهودية ... يرى كل جانبٍ أمنه وازدهاره في انعدام الآخر وخرابه".
يؤكّد دويتشر "أنّ على اليهود الارتقاء فوق النظرة القوميّة والتغلّب على ولعهم بالدولة أو الإمبراطورية"
ولكن ما الحلّ الذي يراه أو يستشرفه دويتشر لهذا الصراع الدامي والمرير؟ يجيب (منذ الستينيّات ولا تزال إجابته صالحة ومطروحة ... إنما غير قابلة للتنفيذ حتى الساعة): "يبدو أنّه ليس هناك من مخرج فوريّ لهذ الأزمة. ربما يعثر على مخرج، في الأجل الطويل، يتجاوز الدولة القوميّة ويكون في إطار أوسع، كاتحاد فدرالي للشرق الأوسط. عندئذ يمكن لإسرائيل أن تلعب دوراً متواضعاً بين الدول العربية متناسباً مع عدد سكّانها، ودوراً كبيراً متناسباً مع طاقاتها الفكرية والروحية ... لكن هذه الفكرة لن تحرز تقدماً على الأرجح في المستقبل القريب، فما زال اليهود منتشين عميقاً بكسبهم الدولة القومية، أمّا العرب فأضحى الظلم الذي لحق بهم هاجساً يحدّ من نظرهم بعيداً إلى الأمام. أي تنظيم فوق – قومي، مثل اتحاد فدرالي للشرق الأوسط، سيكون مفيداً للجانبين. ففي بعض الأحيان، ليس هناك سوى موسيقى المستقبل تستحقّ الاستماع".
يؤكّد دويتشر "أنّ على اليهود الارتقاء فوق النظرة القوميّة والتغلّب على ولعهم بالدولة أو الإمبراطورية، ففي حين تمكّنت الثورة التكنولوجية المستمرّة من جعل مسألة وجود أشكال تتجاوز الحدود القومية مسألةَ حياة أو موت للبشرية، يسخّر اليهود اندفاعهم المطلق ومواهبهم العظيمة لدولتهم وقوميتهم الخاصتين، بينما عليهم حماية أنفسهم من الانجراف في حمّى قوميتهم، والترحيب بانتقادات الآخرين الموجهة إلى دولتهم، فإسرائيل شيءٌ مخلوقٌ وليس حرمة مقدّسة، فهي ليست قوميّة {مختارة}. مستقبل إسرائيل يمكن أن يتوقّف على مدى تخلّص يقظة الإسرائيليين من الوهم وقدرتهم على إيجاد لغة مشتركة مع الشعوب المجاورة".