شهداء أحياء لن يصعدوا كليمنجارو
لأنّهم كُثر هذه المرّة، وبالآلاف، لن يكون في مستطاعك أيّها الروائيّ الموغل في مأساة فلسطين، إبراهيم نصر الله، أن تصحبهم في رحلة صعود إلى قمّة جبل كليمنجارو. هم كُثر اليوم، فما عساك أن تفعل من أجلهم؟ وأيّ رواية، بل ملحمة روائية، ستكتب عنهم؟ ... كان منطلق "أرواح كليمنجارو" (دار بلومزبري ومؤسّسة قطر للنشر، 2015) صعودكَ بنفسك إلى قمّة الجبل التنزانيّ برفقة الفتى معتصم أبو كرش (13 عاماً) من غزّة، والفتاة ياسمين النجار (17 عاماً) من نابلس، وكلاهما فقد ساقاً، إمّا نتيجة عنف المحتلّ (معتصم) أو بسببِ حادثٍ (ياسمين). وكانت البطلة الفلسطينية في تسلّق الجبال، سوزان الهوبي، أوّل امرأة عربية تبلغ قمّة "إيڨرست"، حدثتكَ أواخر سنة 2013 عن مشروع تنظيم رحلة إلى قمّة جبل كليمنجارو مطلع السنة التالية، دعماً لجمعية إغاثة أطفال فلسطين التي تولّت علاج ألوف الأطفال الفلسطينيين، الذين بُترت لهم أطراف أو فُقئت أعينهم أو تعرّضت أعضاؤهم الداخلية لأذىً بالغ. وحين علمتَ أنّ المتطوّعين سيرافقون في رحلة الصعود طفلَين فلسطينيَين من فاقدي الأطراف، أدركتَ بحسّك الرهيف والإنسانيّ أنّ في الأمر تحدّياً وامتحاناً لك كاتباً، وأنّك بمشاركتك في هذه المغامرة ستتمكّن من كتابة الرواية التي لطالما تمنّيتَ أن تكتبها.
وتمت الرحلة المُغامِرة بنجاح، ثمانية أيّام صعوداً إلى القمّة ونزولاً من الخمسة آلاف متر ارتفاعاً، مثمرةً نجاحاً بطولياً لمعتصم وياسمين، ولكَ رواية مُؤثّرة في 384 صفحة، مفعمةً بالعِبَر الإنسانية والفلسفية والتأمّليّة. لكنّ موضوعنا هنا ليس روايتك المُلهِمة، بقدر ما هو طرح السؤال على أنفسنا وعلى العالم كلّه، وعليك إبراهيم نصر الله في الوقت نفسه؛ كيف يمكن التعامل مع مأساة ألوف الأطفال والفتية الذين فقدوا، وما برحوا يفقدون يومياً، أطرافاً من أجسادهم، يداً أو ساقاً أو قدماً؟ وكيف نصف معاناة هؤلاء الشهداء الأحياء، التي لو أسقطناها على أنفسنا أو على ولد من أولادنا لألفينا الموت أهون من أن يعيش إنسان (خاصّة إن كان لا يزال طفلاً) بلا يد أو ساق، أو بلا اليدين أو الساقين، وأن يُكمل حياته بأوضاع مماثلة؟!
أضاءت "أرواح كليمنجارو" ما اجْترحَته المغامرة من تغيير في نفسية بطليها المُعوَّقَين بعد الرحلة. بيد أنّ السؤال المُحرج يبقى: مَنْ يصطحب "أكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ"، بحسب وصف الجرّاح الفلسطيني، غسّان أبو ستّة، شريك المعاناة والشاهد على الصمود التاريخي في غزّة، وقد فاق عددهم بحسب إحصاء نشرته "العربي الجديد" (20 مايو/ أيّار الفائت) أربعة آلاف حالة (من الأطفال فقط) من أصل 11 ألف حالة بتر؟ لكي يُشفى هؤلاء نفسيّاً ويتقبّلوا واقعهم الجديد، من يستطيع تنظيم رحلة صعود قمم لهم، مثل معتصم وياسمين؟ ... المصاب عظيم يتجاوز بكثير القدرة على توصيف المأساة التي يعيشها شهداء غزّة الأحياء، وهم في معركة بقاء وتعايش مرير مع إعاقاتهم، شديدة الإيلام لهم ولذويهم (إن هم باقون أحياءً)، ولجميع الذين يقاسمونهم شعور الألم.
من أفظع ما شهدته عملية الإبادة الوحشية في غزّة جراحات بتر الأطراف من دون تخدير
كشف المفوّض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فيليب لازاريني، أنّ الإبادة الحاصلة في غزّة تُسفر يومياً عن فقدان عشرة أطفال ساقاً أو ساقين (!) والأطفال الذين يُنتشَلون من تحت الأنقاض يخرجون مبتوري الأرجل أو الأيدي، ولا تتوقّف مأساتهم عند انتشالهم، بل تمتدّ إلى المضاعفات المميتة بسبب الافتقار إلى العلاج الطبّي الملائم، الذي كان ممكناً لو وُجد أن يُجنّب كُثراً منهم عمليات البتر. معظم الأحيان لا يمتلك الأطبّاء الفلسطينيون الأبطال خياراً سوى البتر، فلا مجال لنقل الدم بسبب فقدانه، ولو نزفت اليد أو الساق لوجب بترها. ومع عدم إمكان غسل الجرح على الفور، تتطوّر الحالات إلى "الغرغرينا"، التي تستلزم بتراً. أضف أنّ لا مسكّنات ألم بعد عملية البتر، وبخاصّة للأطفال الأشدّ تألّماً. والأطفال الذين بُترت أطرافهم يحتاجون، بحسب الدكتور غسّان أبو ستّة، إلى ثماني أو اثنتي عشرة عملية جراحية أخرى، أي متابعة علاج، وهذا غير متوافر في واقع غزّة المرير. ويواجه الأطفالُ تحدّياتٍ إضافيةً تتعلّق بالنموّ وتكييف الأطراف الاصطناعية، التي تحتاج إلى تعديلات متواصلة لمواكبة نموّ الطفل وتدخّلات طبّية دائمة، وهذا غير متوفر. أضف إلى ذلك كلّه الصدمات النفسية من فقدان الأطراف والدعم العائلي معاً، فهؤلاء الأطفال يُكابدون ألماً مضاعفاً، جسدياً ونفسياً. ووسط هذا الواقع المأساويّ المُظلم، برزت مبادرة "استعادة الأمل" الأردنية لدعم مبتوري الأطراف في غزّة، بغية تحسين حياة هؤلاء الأطفال وتقديم الدعم اللازم لهم ولذويهم (إن كان هؤلاء أحياءً)، ويُزوَّدون بأطراف اصطناعية متطوّرة تُسعفهم في القدرة على الحركة والاستقلالية. كما تشمل المبادرة برامجَ تأهيلٍ وتدريب للأطفال وأسرهم.
من أفظع ما شهدته عملية الإبادة الوحشية في غزّة جراحات بتر الأطراف من دون تخدير، فخلال هذه العمليات التي ترافقها آلام لا تحتمل، تتعرّض الأنسجة والعضلات والأعصاب للقطع، ما يحفّز مُستقبلات الألم في الجسم مباشرة بسبب غياب التخدير، الذي يُعطِّل تلك المُستقبلات ويمنع إشارات الألم من الوصول إلى الدماغ. ويستمرّ الألم المرافق لعملية البتر بعد الجراحة بسبب الالتهابات، ما يجعل تجربة البتر بلا تخدير واحدة من أقسى التجارب التي يعيشها إنسان غزّة، إن كان طفلاً أو بالغاً.
فاقت أشكال الفظاعات وأنواع الألم ومستوياته أيّ مثيل لها في سجلّ الإبادات والحروب. وحشيّة صهيونيّة بلا شبيه تاريخيّاً. ثمّة ما يتجاوز الوصف والكلام. وثمّة ما يحضّ على القول، عذراً حضرة الفيلسوف لايبنتز، هذا أوحش العوالم الممكنة، لا أفضلها كما في مقولتك المتفائلة والذائعة، المتهافتة فوق أرض غزّة، المسقيّة بدماء الشهداء ودموع الأطفال.