الغزو الروسي لأوكرانيا وقضايا الأمن القومي والديمقراطية

17 يونيو 2022
+ الخط -

قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي قد تعمّقت إلى درجة جعلت المحللين السياسيين يتوقعون انهيار الاتحاد الأوروبي وتفكّكه على غرار الاتحاد السوفييتي. هذه التنبؤات صاحبتها خلافاتٌ معمّقة مع دول في الاتحاد الأوروبي، خصوصا في أوروبا الشرقية، ما جعل عديدا من تلك الدول، وعلى الرغم من عضويتها في الاتحاد الأوروبي، أن تتخذ خطواتٍ أقرب إلى روسيا منها إلى الاتحاد نفسه، ومن هذه الدول المجر. استطاعت تلك الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي أن تجعل هناك انقساما وصعوبة في الوصول إلى اتفاق بشأن قضايا عديدة، مثل قضية اللاجئين وغيرها. في الوقت نفسه، فإن الدول التي اتخذت الحياد طريقا لها في سياستها الخارجية أبقت على هذه المسألة بعيدا عن الخلافات التي تعصف بالاتحاد وأعضائه. كما أن شعوبا عديدة من هذه الدول بدأت في التفكير في التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي، علي غرار بريطانيا. إلا أنه مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، تغيرت تلك المعادلة بأكملها، فالدول التي كانت تتّخذ من الحياد أساسا لها في سياستها الخارجية بدأت ترى ضرورة التخلي عن هذه المسألة، والانضمام إلى التكتلات السياسية والعسكرية. وهنا نشهد دولا، مثل السويد وفنلندا، تتقدّم بطلب للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهذا معناه نهاية سياسة الحياد التي انتهجتها تلك الدول منذ الحرب العالمية الأولى. وفي الوقت نفسه، فإن دولا كبرى، مثل ألمانيا، تخلت عن حيادها، وعن سياسة الاحتواء تجاه روسيا، وبدأت في إعادة تسليح جيشها أول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما أنها انخرطت، جدّيا، في الوقوف ضد روسيا ومصالحها، بل والذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، بالتضحية بالمشاريع الاقتصادية الكبرى مع روسيا، مقابل الحفاظ على الأمن القومي، فيما تعهّدت بلدان أخرى بالسير على خطى ألمانيا، بما في ذلك الدنمارك والسويد والنمسا.

دولٌ، مثل المجر، كانت تفكّر في الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أنها أدركت، مع غزو أوكرانيا، أن روسيا لن تكون الحليف الذي قد تتكئ عليه

في الوقت نفسه، فإن دولاً أسّست لمسافة تقارب مع روسيا أدركت أن هذا التقارب ليس في مصلحتها، بل يمثل عبئا عليها، وأدركت لوهلة أن هذا التقارب قد يصبح خطرا عليها، يهدّد وجودها، كما أن شعوب هذه الدول أدركت أن المسار الديمقراطي هو الحل للخلافات، والتمركز داخل القارّة الأوروبية وتعزيز الديمقراطية هو المسار الذي يجب أن تكافح من أجله. ولعل هذا هو الدافع لشعوب عديدة في شرق أوروبا أن تقرّر في استفتاءات نزيهة أنها تحتاج حماية "الناتو" تحديداً في مواجهة مزاعم الأمن القومي الروسي. ففي الفترة التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت دولٌ، مثل المجر، تفكّر جدّيا في الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أنها أدركت، مع بداية الغزو، أن روسيا لن تكون الحليف الذي قد تتكئ عليه. وعليها العودة إلى البيت الأوروبي، وإدارة الخلافات في إطار الاتحاد الأوروبي وقوانينه، وأن غزو روسيا أوكرانيا قد لا يكبح جماح شهوتها في التمدّد لغزو دول أخرى، فعلى الرغم من الجدل الذي احتدم بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن التخلي عن الغاز الروسي، وإحباط استخدامه سلاحا استراتيجيا في الحرب، إلا أن هناك اتفاقا ضمنيا بين تلك الدول أن الأمن القومي يجب أن يتقدّم على الاقتصادي. ولعل هذا المبدأ هو الأساس الذي جعل دول الاتحاد الأوروبي تتفق على ضرورة التخلي عن الغاز الروسي، فالمجر التي كانت دائما تثير الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي أدركت أنها لا بد أن تتفق مع الاتحاد، وتصل معه إلى تفاهماتٍ بشأن خطة التخلي عن الغاز الروسي، وأن تعيد تمركزها بوصفها دولة أوروبية، تجمعها مع دول الاتحاد مصالح مشتركة.

وعلى الرغم من أن أكثر من 60% من استخدام المجر للغاز هو بالأساس اعتماد على الغاز الروسي، كما أنها لا ترتبط بشبكة الغاز الأوروبي. وبالتالي، ارتباطها فقط مع شبكة الغاز الروسي لاستيراده، إلا أنها اتفقت على أن تتعاون مع دول الاتحاد الأوروبي، والقبول بخطة التخلي والبحث عن بدائل للغاز الروسي. ومن هنا، سمح الاتحاد للمجر أن تستمرّ في استيراد الغاز الروسي حتى عام 2024 إلى حين إيجاد البديل وربطها بشبكة الغاز الأوروبي. لقد عوّل بوتين كثيرا على الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي، ظانّاً أنها ستمهد له الطريق ليفعل ما يشاء داخل الاتحاد ويهدّد وحدته، إلا أن هذه التوقعات الخاطئة جعلت الاتحاد الأوروبي أقوى وأشدّ تماسكا مما كان عليه، بل وجعلت الدول الأعضاء داخل الاتحاد تتفق على ضرورة توسيع عضوية الاتحاد، ليشمل دولا أخرى. كما أن دولا أخرى بدأت بالفعل في الإحساس بالخطر، وبالتالي طلبت عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في آن. في الوقت نفسه، سيمنح الغزو الروسي لأوكرانيا أدوارا جديدة لدول داخل الاتحاد، لم يكن لها أن تلعبه لولا هذا الغزو، ومنها بولندا، ففي المستقبل القريب، سنرى صعودا لبولندا داخل الاتحاد الأوروبي، ولعبها أدوارا سياسية وعسكرية مهمة.

عوّل بوتين كثيرا على الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي، ظانّاً أنها ستمهد له الطريق ليفعل ما يشاء داخل الاتحاد ويهدّد وحدته

لقد أسّس الغزو الروسي لأوكرانيا لمعادلات جديدة، وأسقط سردياتٍ قائمة، فمعادلة الأمن القومي مقابل الطاقة، وهي لم تكن مفعلة من داخل الاتحاد الأوروبي، بل كانت مهملة في مقابل سياسة الاحتواء التي تعاملت بها دول الاتحاد تجاه روسيا، ودمجها داخل الاقتصاد الدولي، أصبحت الآن الأولوية في مقدمة السياسات الأوروبية، كما أن هذه المعادلة الجديدة ستكون الأساس الذي سيرسم المسار الجديد أو ملامح النظام السياسي الأوروبي القريب. لقد أسقط الغزو الروسي لأوكرانيا سرديات عديدة قائمة بحجة حفظ الأمن القومي، فرفض هذه الحجة يعني أيضا رفض التبرير لحروب عدوانية كثيرة، تحت مسمّى الأمن القومي، مثل حرب الولايات المتحدة في فيتنام، وصولاً إلى الحرب السعودية المستمرّة في اليمن والمعارك التركية في الشمال السوري، والانخراط الإيراني في الحرب السورية، مروراً بأعمال عدوانية مريعة، مثل هيمنة المخابرات السورية على لبنان بعد الحرب الأهلية فيه، والانقلابات المدعومة من واشنطن ودول غربية أخرى في أميركا الجنوبية وأفريقيا. وهذا كله يمكن تبريره باسم الأمن القومي والمتطلبات الجيوسياسية، وهذا كله يمكن اعتباره حروباً عادلة إذا اعتقدنا أن الأمن القومي للدول، كما يحدّده أصحاب السلطة فيها، أهم من حقوق الإنسان في الحياة والسلام والعيش الكريم، وأهم من الديمقراطية أيضاً.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.